«ذاكرة الجسد»: تحدي نقل «المونولوج» من الرواية للتلفاز
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
رشا عبدالله سلامة
ما يقارب الخمسة عشر عاماً استغرقت رواية "ذاكرة الجسد" ، للجزائرية أحلام مستغانمي ، ليتم التفكير في نقلها من حيز الصفحات إلى ميدان العمل الفني.
لعل التساؤل الأبرز ، الذي قفز إلى ذهن قارئ الرواية ، حين تم الإفصاح عن نية تحويلها إلى مسلسل ، كان: كيف سيتم التعامل ، فنياً ، مع رواية تعتمد ، بشكل أساسي ، على "المونولوج" (الحوار الداخلي)؟.
كان التخوف من التضحية ـ بقدر كبير ـ من هذا "المونولوج" المصوغ بشاعرية عالية في متن الرواية ، أو ، على النقيض من ذلك ، الإغراق فيه إلى حد لا يحتمله العمل التلفزيوني. بيد أن المخاوف الآنفة تبددت منذ الحلقات الأولى ، حين استطاع مخرج العمل ، نجدت إسماعيل أنزور ، وكاتبة السيناريو ، ريم حنا ، توزيع "المونولوج" بين أحداث المسلسل ، وعبر وضعه في قالب "الفلاش باك" (استعراض الماضي) تارة أخرى ، وعبر تمثيله في مواضع أخرى ، من دون استحضار نص الرواية لا سيما تلك المقاطع التي تستشرف المستقبل ، أو تطرح الشكوك بين الأبطال.
اللافت ، أيضاً ، أن أحداث المسلسل ، التي التزمت ـ إلى حد كبير ـ بالنص الروائي ، كانت متسارعة بشكل لافت ، لا سيما في الحلقات الأولى ، ما قد يكون سببه خلق نوع من التشويق للمشاهد الذي قد لا يكون معتاداً على هذا القدر من "المونولوج" في المسلسلات الدارجة.
التساؤل الآخر كان حول الكيفية التي سيقدم بها أنزور وحنا بعض مقاطع الرواية العاطفية ، خاصة أن جمهور العمل الفني لا يرقى ، غالباً ، لنخبوية جمهور القرّاء. في هذا الصدد ، تمكّنا من إيصال أجواء الرواية العاطفية من خلال الإيحاء الذي سخّر له أنزور الموسيقى التصويرية والألوان والإضاءة ولغة الجسد والعيون ، مع انتقاء حنا مقاطع عميقة المعنى مبطنة اللغة من الرواية ، ليسردها البطل بصوته.
بطل الرواية خالد بن طوبال ، الذي لعب دوره السوري جمال سليمان ، والذي غدا علامة بارزة في جل الأعمال العربية الهامة ، استطاع ، كما دوماً ، استغلال قدراته التمثيلية حتى أقصاها ، برغم بعض المقاطع التي تركت فيها لهجته السورية أثراً على نطقه العربية الفصحى.
حياة ، التي أدت دورها الجزائرية أمل بوشوشة ، والتي ارتكبت بعض الأخطاء النحوية واللغوية في مقاطع من حواراتها ، تمكنت من طرح نفسها بقوة للجمهور العربي الذي لم يعرفها إلاّ من خلال "ذاكرة الجسد": إذ تقمصت دور حياة ، تماماً ، كما برعت مستغانمي في نقله الى القارئ عبر صفحات الرواية ، إلى جانب إمكاناتها الصوتية اللافتة في غناء شارة المسلسل.
الشبه بين ملامح بوشوشة ومستغانمي ، إلى جانب تطابق مواصفاتها الشكلية والنفسية مع حياة التي وردت في الرواية ، أسهم أيما إسهام في إيصال نموذج المرأة الشرقية التي دأبت مستغانمي على ترسيخ صورتها عبر رواياتها بشكل مبطن لتزكّي نموذجها ، علناً ، في كتابها الأخير "نسيان". المرأة التي تمسك بزمام العلاقة ، والتي تختار ، دوماً ، أن تتسيد الرجل لا العكس ، والتي ـ في الوقت نفسه ـ تعاني زج الرجل والمجتمعات الشرقية لها في تناقضات وصراعات عدة مهما أبعدتها المنافي أو تلبستها الحياة العصرية. أكثر ما تجلى ذلك في المقاطع التي كانت تخشى فيها حياة من مقابلة البطل علانية في الأماكن التي قد يلمحها بها جزائريون ، رغم الحرية التي تمنحها باريس لقاطنيها.
زياد ، الشاعر الفلسطيني الذي أدى دوره التونسي ظافر العابدين ، استطاع ترجمة تحليلات مستغانمي البارعة للشخصية الفلسطينية ، لا سيما الفدائية منها ، وبجدارة عالية. وإن كانت لكنته الجزائرية ظاهرة في نطقه كثيراً من الكلمات ، وإن كان أنزور ، أيضاً ، استخدم صفة معممة عن الفدائيين الفلسطينيين ، حين جعلهم ، جميعاً ، دونما استثناء ، ملفعين بالكوفيات الفلسطينية.
تحويل أعمال روائية ، على سوية راقية ومشهود لها ، بمستوى رواية "ذاكرة الجسد" ، إلى أعمال فنية ، ليعدّ بشرى خير للفن العربي ، الذي بات يعاني شحاً في الأعمال الروائية: إذ ترقى هذه الأعمال بذائقة الجماهير العربية ، وتبث شيئاً من الروح في أوصال اللغة العربية الفصحى المهلهلة بين صفوف العامة ، إلى جانب إنعاشها ذاكرتهم القومية العربية ، وضمّهم في عباءة واحدة ليس على صعيد شخصيات الرواية فحسب ، بل على صعيد طاقم التمثيل ، أيضاً.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
رشا عبدالله سلامة
ما يقارب الخمسة عشر عاماً استغرقت رواية "ذاكرة الجسد" ، للجزائرية أحلام مستغانمي ، ليتم التفكير في نقلها من حيز الصفحات إلى ميدان العمل الفني.
لعل التساؤل الأبرز ، الذي قفز إلى ذهن قارئ الرواية ، حين تم الإفصاح عن نية تحويلها إلى مسلسل ، كان: كيف سيتم التعامل ، فنياً ، مع رواية تعتمد ، بشكل أساسي ، على "المونولوج" (الحوار الداخلي)؟.
كان التخوف من التضحية ـ بقدر كبير ـ من هذا "المونولوج" المصوغ بشاعرية عالية في متن الرواية ، أو ، على النقيض من ذلك ، الإغراق فيه إلى حد لا يحتمله العمل التلفزيوني. بيد أن المخاوف الآنفة تبددت منذ الحلقات الأولى ، حين استطاع مخرج العمل ، نجدت إسماعيل أنزور ، وكاتبة السيناريو ، ريم حنا ، توزيع "المونولوج" بين أحداث المسلسل ، وعبر وضعه في قالب "الفلاش باك" (استعراض الماضي) تارة أخرى ، وعبر تمثيله في مواضع أخرى ، من دون استحضار نص الرواية لا سيما تلك المقاطع التي تستشرف المستقبل ، أو تطرح الشكوك بين الأبطال.
اللافت ، أيضاً ، أن أحداث المسلسل ، التي التزمت ـ إلى حد كبير ـ بالنص الروائي ، كانت متسارعة بشكل لافت ، لا سيما في الحلقات الأولى ، ما قد يكون سببه خلق نوع من التشويق للمشاهد الذي قد لا يكون معتاداً على هذا القدر من "المونولوج" في المسلسلات الدارجة.
التساؤل الآخر كان حول الكيفية التي سيقدم بها أنزور وحنا بعض مقاطع الرواية العاطفية ، خاصة أن جمهور العمل الفني لا يرقى ، غالباً ، لنخبوية جمهور القرّاء. في هذا الصدد ، تمكّنا من إيصال أجواء الرواية العاطفية من خلال الإيحاء الذي سخّر له أنزور الموسيقى التصويرية والألوان والإضاءة ولغة الجسد والعيون ، مع انتقاء حنا مقاطع عميقة المعنى مبطنة اللغة من الرواية ، ليسردها البطل بصوته.
بطل الرواية خالد بن طوبال ، الذي لعب دوره السوري جمال سليمان ، والذي غدا علامة بارزة في جل الأعمال العربية الهامة ، استطاع ، كما دوماً ، استغلال قدراته التمثيلية حتى أقصاها ، برغم بعض المقاطع التي تركت فيها لهجته السورية أثراً على نطقه العربية الفصحى.
حياة ، التي أدت دورها الجزائرية أمل بوشوشة ، والتي ارتكبت بعض الأخطاء النحوية واللغوية في مقاطع من حواراتها ، تمكنت من طرح نفسها بقوة للجمهور العربي الذي لم يعرفها إلاّ من خلال "ذاكرة الجسد": إذ تقمصت دور حياة ، تماماً ، كما برعت مستغانمي في نقله الى القارئ عبر صفحات الرواية ، إلى جانب إمكاناتها الصوتية اللافتة في غناء شارة المسلسل.
الشبه بين ملامح بوشوشة ومستغانمي ، إلى جانب تطابق مواصفاتها الشكلية والنفسية مع حياة التي وردت في الرواية ، أسهم أيما إسهام في إيصال نموذج المرأة الشرقية التي دأبت مستغانمي على ترسيخ صورتها عبر رواياتها بشكل مبطن لتزكّي نموذجها ، علناً ، في كتابها الأخير "نسيان". المرأة التي تمسك بزمام العلاقة ، والتي تختار ، دوماً ، أن تتسيد الرجل لا العكس ، والتي ـ في الوقت نفسه ـ تعاني زج الرجل والمجتمعات الشرقية لها في تناقضات وصراعات عدة مهما أبعدتها المنافي أو تلبستها الحياة العصرية. أكثر ما تجلى ذلك في المقاطع التي كانت تخشى فيها حياة من مقابلة البطل علانية في الأماكن التي قد يلمحها بها جزائريون ، رغم الحرية التي تمنحها باريس لقاطنيها.
زياد ، الشاعر الفلسطيني الذي أدى دوره التونسي ظافر العابدين ، استطاع ترجمة تحليلات مستغانمي البارعة للشخصية الفلسطينية ، لا سيما الفدائية منها ، وبجدارة عالية. وإن كانت لكنته الجزائرية ظاهرة في نطقه كثيراً من الكلمات ، وإن كان أنزور ، أيضاً ، استخدم صفة معممة عن الفدائيين الفلسطينيين ، حين جعلهم ، جميعاً ، دونما استثناء ، ملفعين بالكوفيات الفلسطينية.
تحويل أعمال روائية ، على سوية راقية ومشهود لها ، بمستوى رواية "ذاكرة الجسد" ، إلى أعمال فنية ، ليعدّ بشرى خير للفن العربي ، الذي بات يعاني شحاً في الأعمال الروائية: إذ ترقى هذه الأعمال بذائقة الجماهير العربية ، وتبث شيئاً من الروح في أوصال اللغة العربية الفصحى المهلهلة بين صفوف العامة ، إلى جانب إنعاشها ذاكرتهم القومية العربية ، وضمّهم في عباءة واحدة ليس على صعيد شخصيات الرواية فحسب ، بل على صعيد طاقم التمثيل ، أيضاً.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]