تعد مدرسة الشبان المكفوفين ببلدية العاشور (غرب الجزائر العاصمة) طوق نجاة لهذه الفئة من الغرق في مستقبل بدون ملامح، إذ نجحت في إلغاء كلمة “إعاقة” من قاموس تلاميذها عندما علّمتهم أن ظلمة الجهل أشد عتمة من ظلمة البصر وغرست فيهم الإرادة ومبدأ الإيمان بقدراتهم والتشبث بأحلامهم، حيث رافقت أجيالا من الطلاب على مر 40 سنة فأصبحوا اليوم إطارات هامة بالبلاد.
تستقبل مدرسة المكفوفين بالعاشور 200 تلميذ سنويا في الطورين الابتدائي و المتوسط، قادمين من 18 ولاية.
وتتبع المؤسسة ذات المقرر المسطر من طرف وزارة التربية في كافة الأطوار مما يساوي بين مستوى الطلبة المكفوفين مع غيرهم و يؤهلهم للاندماج ضمن المؤسسات التربوية العادية خلال مرحلة التعليم الثانوي و الجامعي.
وقد حققت نسبة نجاح قياسية في الموسم الدراسي 2009/2010، لم تسجل في أي من المدارس الأخرى عبر الوطن، سواء العادية منها أو لذوي الاحتياجات الخاصة، إذ بلغت نسبة النجاح بها في الطورين الخامس ابتدائي و الرابع متوسط، 100 بالمائة و 98 بالمائة على التوالي و هو الأمر الذي تعتبره مديرة المدرسة السيدة علجية فتيس و كامل الطاقم البيداغوجي العامل بالمؤسسة فخرا لهم جميعا، قائلة “يدفعنا هذا التفوق إلى مواصلة التحدي الذي ترفعه المدرسة منذ أربعين سنة، ويمدنا بكثير من القوة و الثقة، حيث أثبت هؤلاء التلاميذ مرة أخرى أن فقدان البصر أهون بكثير من فقدان البصيرة، فحين ينجح الكفيف في تحصيل نتائج مبهرة يعجز الأصحاء عن بلوغها فلا مجال أبدا للحديث عن الإعاقة”.
و تقول السيدة فتيس أن استمرار تفوق المدرسة يعود إلى إرادة التلاميذ بالدرجة الأولى ثم إلى المجهود الجبار الذي يبذله الطاقم البيداغوجي المختص المتكون من 35عنصر بينهم أساتذة مختصين منهم من كانوا بالماضي تلاميذ بالمدرسة، بالإضافة مربيين و مختصين نفسانيين و اجتماعيين، يهتمون بمساعدة التلاميذ على تخطي أي مشاكل نفسية أو اجتماعية من أي نوع كانت، ذلك أن المكفوف يكون حساسا بشكل كبير في بداية مراحل التعليم، خاصة و أن عددا من التلاميذ- تقول- ينتمون إلى النظام الداخلي بسبب بعد إقامة ذويهم و هو ما يلزمنا برعايتهم بشكل نخفف من خلاله إحساسهم بالوحدة.
وذلك ما جعل القائمين على المدرسة يفكرون في استحداث ورشات جديدة خارج إطار المقرر و التي تميل إلى الترفيه أكثر دون أن تخلو من الجانب التربوي، و تذكر من بينها مديرة المدرسة، و رشة البستنة و الأشغال اليدوية والطبخ وتقنية الحركة.
كما تضع المدرسة قاعة موسيقى مجهزة، تحت تصرف التلاميذ لتطوير مواهبهم و قاعة للإعلام الآلي مجهزة بكمبيوترات خاصة بالمكفوفين و طابعة على طريقة البراي، كما تنظم المدرسة خرجات ميدانية إلى عدد من المتاحف و المواقع الأثرية لتعريف التلميذ بمحيطه أكثر.
كما تشتمل المدرسة على قاعة للألعاب الترفيهية و الفكرية للتخفيف من وطأة الغربة التي يحسونها بعيدا عن ذويهم، تتمثل في “الشطرنج” ، “الدومينو” ، ألعاب الألغاز، و غيرها من اللعب المكيفة بطريقة تسهل على الأطفال المكفوفين التعامل معها.
وقد تم إنشاء أول فوج كشفي في شهر ماي الفارط، مكون من ثلاثين تلميذ من مدرسة المكفوفين بمبادرة من القائد العام للكشافة الإسلامية الجزائرية ومديرة المدرسة وموافقة وزير التضامن و العائلة والجالية بالخارج .
وقد كلف القائد العام قروج عبد القادر بمتابعة الملف وتكوين الأساتذة الذين سيشرفون على تأطير الأطفال المكفوفين، وسوف يتم توسيع المبادرة الى 17 ولاية مستقبلا.
تصنف هذه المدرسة ضمن أقدم و أكبر المدارس على المستوى الوطني و أكثرها تجهيزا بوسائل التعليم المكيفة مع احتياجات الطالب الكفيف، إذ تتوفر على مكتبة سمعية متطورة يمكن للتلميذ من خلالها مراجعة دروسه أو مطالعة قصص مسلية منتقاة حسب السّن و المستوى الدراسي عن طريق أجهزة سمعية، كما تحتوي المكتبة على مصاحف مطبوعة بطريقة البراي استطاع بواسطتها عدد من التلاميذ حفظ أجزاء لا بأس بها من القرآن الكريم.
و قد كانت التلميذة أميرة صاحبة التسع سنوات من بين من التقيناهم بالمكتبة، شدتنا بهدوئها و صوتها الجميل حين كانت ترتل آيات من سورة الإسراء التي أصبحت تحفظها عن ظهر قلب، و حين اقتربنا منها أخبرتنا أنها قدمت من ولاية “تمنراست” (أقصى جنوب الجزائر) و أنّها تسافر لرؤية عائلتها كل 15 يوما، لكنها لا تحس بالغربة في المدرسة إذ لديها الكثير من الأصدقاء إضافة إلى المربيّات اللواتي يعتنين بها، و أردفت ببراءة “لكنني رغم ذلك أشتاق كثيرا إلى أمي”.
تلعب الأخصائيتان النفسيتان في مدرسة المكفوفين بالعاشور دورا بالغ الأهمية، باعتبارهما الشخص الأول الذي يلتقي به التلاميذ لدى التحاقهم بالمدرسة مما يضع على كاهلهما مسؤولية توفير الأجواء المريحة و المغرية التي تسهل على التلميذ صدمة الانفصال عن العائلة، بالإضافة إلى متابعتهما للحالة النفسية للتلاميذ على طول السنة الدراسية.
و تقول الأخصائية بشرى أن الرعاية النفسية و المعنوية لهذه الفئة سواء المكفوفين منهم منذ الولادة أو الذين تعرضوا لحادث افقدهم البصر يعد أمرا بالغ الأهمية لمساعدتهم على تقبل النقص الحاصل لديهم و التكيف مع المدرسة، إذ يتم عمل الأخصائي النفسي بالتنسيق مع المربيين و المعلمين و شرح المشاكل النفسية لكل تلميذ حتى يتم التعامل معه حسب ظروفه.
هشام بن جنونة أحد الطلبة الناجحين بمدرسة المكفوفين بالعاشور قدم من ولاية بومرداس و يزاول دراسته بها منذ الأولى ابتدائي، انتقل إلى السنة الرابعة متوسط بمعدل أكثر من 20/14، ليتم بذلك سنته العاشرة داخل المؤسسة التي أصبح يعتبرها بيته الثاني، الكل يتحدث عن روحه المرحة و احترامه لمعلميه و حبه لأصدقائه.
هشام صاحب الخمس عشر سنة أصبح لا يشعر بالفرق بينه و بين أقرانه المبصرين، ويقول أن مدرسته حققت له تكافؤا فكريا و ثقافيا معهم، و أنها علمته كيف تكون المثابرة و العمل الجاد أساسا في نجاحه.
يعشق هشام اللغة الفرنسية ويتمنى أن يصبح مترجما في المستقبل.
قال ان فقدانه البصر حين كان عمره عامين إنما هو حادث أراد به الله أن يبرز قدرات كبيرة لديه وأنه بالعقل وحده لا بالبصر يمكن للإنسان أن يثبت ذاته ويمضي بنجاح في حياته تماما كما ينوي هشام أن يفعل.
وفي مشهد مؤثر جلست مجموعة من التلميذات مع بعض خلال فسحة الصباح للتعارف فيما بينهن، لأنها ربما الطريقة الوحيدة لقهر الإحساس بالوحدة و الابتعاد عن الأهل، حديث طريف دار بينهن بعفوية الصغار و براءة لا تميز بين الكفيف و المبصر.