السيد المسيح رسول السلام يلوح بالأفق للعودة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خيـر مبعوثٍ للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الوعد الأمين.
لقد أضحينا في آخر الزمن، عمَّ الجهلُ وتغلَّب الهوى، واستعصت الشهواتُ في النفوس ، استُحلَّ الحرامُ وحُرِّم الحلالُ، وفتحَ الناس باب الإباحية.
ظلامٌ دامسٌ وليلٌ أعتم القلوبَ والنفوس. ضبابُ الحضارة الكثيف أسملَ البصائر، ففرَّ الناس من الواقع، وغاصوا في غياهبِ الخمور والفجور، كما أغرق الضياء والنعيم،
وحجبَ نور الحقِّ المقيم، قلق واضطرابٌ، ورعبٌ لا يفارقُ الصدور، من ظلم بني الإنسان للإنسان، ألمٌ عاصفٌ يجتاحُ الحنايا، يستنـزف الدمعَ من مآقٍ غاضَ ماؤها
لقسوة أهل الحضارةِ وعمَائِها.
كابوسٌ رهيبٌ ترزحُ القلوبُ تحت وطأته، ذلٌّ تخطى القيم
لنفوس أبت إلاَّ الذلّ من أجل لقمة عيش كريهة، عسفٌ أذهلَ الكائنات لمن يدَّعون
بالحضارةِ والإنسانية والمكرمات، مهرجانٌ عظيمٌ ولكن من الأنَّاتِ إذ بطشَ القويُّ
بالضعيفِ، والرجالُ بالنساء والأطفال، والأغنياءُ بالفقراء، صرخات التوجعِ والآهات
تترى والعذاب سِجال.
اغْتِيلت الفضيلةُ، وأمسكت الرذيلةُ بصولجان الإمارة، فحلَّت بواديهم مآسي الخزي والخسارة، دُفنت القيم، واستعلى الطاغوتُ، فقُتلت النفوس وافْتقدت السعادة، طُلِّق الحياءُ
فأصبحت سوق الشيطان رائجةً، عندها حلَّ البلاء وانعدم الرضى وأضحت الحياةُ جحيماً لا يطاق. اندثرت الحقيقة إذ هجرَ الناس القرآن، كما هجر من قبله
الإنجيل والتوراة، وتكالبوا على العلم، الإۤله المزيَّف (علم المخلوق الضعيف لا علم الخالق العظيم)، وأشاحوا عن الديّان مبدع الكمال ورب النعيم والسرور العميم، فانقطعت سبل السعادة، وغرق الناس في بحر الضنك والمرارة. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا..} سورة طـه (124).
انكبّوا على ألوان الخمور والمخدرات يعبّون منها، وينشدون بها الفرار فترات، ليعودَ الأمر أشدُّ وأدهى وأكثرُ شراسةً وأطغى، حتى دفع اليأس والقنوط
وخيبة الأمل من الدنيا الكثير الكثير في أمِّ الحضارات الخدّاعة الغرّارة إلى الانتحار وهجْر ما هفوا إليه من دنيا دنيّة.
آن الأوان ودار الزمان دورته، وملّت النفوس من الإعراض، إذ أترعت بالأمراض،
حتى زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فتعالت النداءات أن عودوا إلى الحق،
فالعوْد أحمد، والرجوع إلى الحق خيرٌ وأحب إلى الله من التمادي في الباطل، لقد أبى الرحمن الرحيم إلاَّ أن ينقذ بني الإنسان
من هذا الهوان، فبعد أن ذاقوا مرارة الإعراض من طغيانهم وبغيهم وفسادهم، عندما تخلوا عن الإۤله مبدع الأكوان والأرض والسموات، فحلَّ فيهم الشقاء والبؤس
والبأساء، طلبوا الخلاص من رب الخلاص: فاستجاب لهم ربهم أني: {..أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..} سورة البقرة (186)، سأبدّل شقاءكم نعيماً، وغمّكم وهمكم بهجة وحبوراً، وسأجعل أرضكم جنَّات وغبطة أبديّة، سأعيد إليكم رسولاً عظيماً كريماً، يطيِّب عيشكم في ظلال روح وريحان، ورضى وبهجة وأمان،
بظهور سيّد الأكوان (في عصره) سيدنا (عيسى المسيح عليه السلام) إلى يوم تلقوني وأنا عنكم راض. فمن نعيم إلى نعيم أكبر، ومن سعادة إلى سعادة أعظم.
هذا العظيم الذي جاء للدنيا لهداية قومه، وجبر عثراتهم وإيقاظهم من رقادهم، ونقلهم من السعادة الموهومة الكاذبة إلى الحقيقة المنيرة المشرقة والكسب العظيم،
وهم للمنطق ما استجابوا، وللعمى أرادوا، بذَل الكثير في نصحهم، وشقي لإسعادهم، لكن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، وما حلَّ في قلبٍ إلا أهمَّهُ ونغَّصه وأضناه، وفي
الرذيلة والقسوة أرداه، فشهوتهم مستيقظة، وفكرهم في رقاد.
أحيا لهم الميّت، وأبرأ الأكمهَ والأبرصَ، ورأوا معجزاته كلها، وشاهدوا كمالاته ولطفه لمساً وحسّاً، ولكن قلبهم الأعمى بحب الدنيا جحد به ونكره، فاتهموه بالسحر، ناسين بغمرتهم المنحطة كمالاته الرفيعة التي لم يدانه فيها مخلوق، ولم يروا بمنظارهم المنحرف منطقه العالي الذي هو من الله مباشرةً، بل لم يشاهدوا لطفه وكماله، ورحمته وحنانه، فلم يعلموا لجهلهم على من يردُّون، فنكروا الوحي وأصمُّوا أسماعهم عن نداء ربهم الرحيم، فكان هُبوطُهم من سمائهم مُحْتماً، وفقدانهم لمنزلتهم التكليفية مبرماً، وقالوا كلمة الكفر ويا لهول ما قالوا، ظناً لا تحقيقاً بقولهم إنه المسيح الدجال، ثم الغضّ من أمّه الصدّيقة، التي هي أطهرُ نساء العالمين: {...يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} سورة آل عمران (42)،
فكانوا كمن يهوي من السماء فتخطفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، هذا عن
اليهود، أما النصارى فكان قولهم لا واقع ولا منطق فيه، إذ نسبوا له ولأمه الألوهية وهو عليه السلام براء من الشرك، فالشرك شيء عظيم ولم ولن يخطر له على بال، لأنه لا يرى إلا الله مستغرقٌ بالله تعالى، فانٍ وباقٍ بالله، لأنه مُشاهد مُبصر، فما نسبوه إليه لا أصل ولا وجود له في نفسه، وهو مستسلم بروحه وكلِّيته وجسمه إلى الله، فمن أين جاؤوا بهذا القول وخرقوه وهو عليه السلام منه براء.
بل سبق عليه السلام وحذَّرهم من الشرك بقوله: {..إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ..} سورة المائدة (72).
فهل حقاً سيظهر السيد المسيح ثانية، ومن
سيناصر: اليهود، أم المسيحيين، أم المسلمين؟.
وهل
سيأتي بإنجيل ثاني غير الإنجيل السابق؟ أم على القرآن سيبنى الحق؟
ـ اليهود يؤمنون ويقولون بأن السيد المسيح الحقيقي سوف يظهر
حتماً في فلسطين
(أرض الميعاد)، لذا فهم استقتلوا وبذلوا ما بذلوا حتى ملكوا أرض الميعاد انتظاراً
لظهور السيد المسيح الملك العالمي. حيث سيرفعهم إلى الأوج فوق العالمين في الدنيا الآن، وما عليهم إلاَّ أن
يؤمِّنوا له قطعة
أرضٍ
في فلسطين لظهوره ثانية بينهم وينصرهم على العالمين. حيث أنهم يزعمون أن سيدنا عيسى الذي
ظهر سابقاً قبل (2000) عام لم يكن هو المسيح الحق، ولكن المسيح الحق سيظهر عاجلاً الآن في فلسطين.
ولا
تظن أن الأمر نظري أو بالأمر الهيِّن عند اليهود، فإنَّ (70%) من بني إسرائيل الآن في
فلسطين مجتمعون على أساس ديني وعلى أسس أرض الميعاد بظهور السيد المسيح بينهم.
ـ
أما المسيحيين، فإنهم يؤمنون بأن السيد المسيح سيظهر ثانية، ولكن ليس بجسده الشريف،
وإنما بروحانيته العظمى التي ترفرف على العالم فيحلُّ الأمن والسلام ولا تبقى حروب أو شدائد حتى يوم القيامة.
والسؤال
الآن:
1ـ
أين السيد المسيح، أفي أرض؟ أم في سماء؟ وهل
سيعود ثانيةً حقّاً، وما هو الدليل؟
وبالآية
الكريمة (55) في سورة آل عمران: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ..} فهل يعني ذلك أنه سيعيده للحياة بعد الوفاة
ويحييه مرة
ثانية
ويظهره؟ ولماذا يظهره ثانية؟
2ـ وما الدليل القرآني أو
المنطقي على مجيئه يحمله ملكان يطوفان به فوق مدينة دمشق ثم يضعانه على مئذنة
بالجامع الأموي (مئذنة عيسى)؟
3ـ
مع أي فئة سيكون، هل مع المسلمين؟ أم مع
المسيحيين؟ أم مع اليهود؟
4ـ
هل سيأتي بإنجيل ثاني غير الإنجيل السابق؟ أم على
القرآن سيُبنى الحق؟
5ـ
وأخيراً،
هل سيظهر السيد المسيح عليه السلام ثانية لوحده أم يعود هو وأمه السيدة مريم
العذراء عليها السلام؟
الجواب:
ـ
قبل قيام الساعة التي أشار إليها القرآن الكريم أو أي بلاء آخر فإن الله يرسل إلى الناس إنذارات
وتحذيرات لعلهم ينتبهون من غفلتهم ويصحون من سكرتهم ثم يتداركون أمرهم قبل أن يحل بساحتهم العذاب وقبل
أو يقولوا ربنا
أرجعنا
نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل.
ـ
ولا تقتصر تلك التحذيرات على الرسل فحسب بل التنظيم الكوني الصارم بدقته والهادف في غايته
يحذرنا من الاطمئنان لهذه الدنيا، فالمراحل التي يمر بها الإنسان أو الحيوان من ضعف إلى قوة ومن قوة إلى ضعف وشيْبه،
والنبات يخرج
غضاً
ثم يستوي ويستغلظ ثم يصبح هشيماً تذروه الرياح إن هي إلا آيات محذرات مبينات للإنسان بأن لا
يطمئن ويركن إلى الحياة الدنيا بل تطلب إليه بما تقدمه من المواعظ أن يشمر عن ساعد الجد ويسعى لما هو مخلوق
له لأن الأمر
جد
وما هو بالهزل
.
تحذيرات:
ـ
وما أشراط الساعة التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام وظهرت الآن إلا آيات مبينات لأولي
الألباب الذين يبحثون عن لب الأمور أي عن ربهم موجد الوجود ويذرون القشور والخيال المنطبع على شبكية العين
فيرون الحقيقة
ببصائرهم
بنور ربهم، لا بنور الشمس والكهرباء.. الخ.
ـ
ففي أشراط الساعة آيات مبينات بأن هذه الحضارة التي بنوها وارتضوا بها سوف يأتي الله على بنيانها
من القواعد فيخر عليهم السقف من فوقهم ذلك بأن الله لا يأخذ القرى بظلم وأهلها غافلون، أما إذا أخذها وهي ظالمة
فإن أخذه أليم
شديد،
فلو كانت الحياة طيبة في ظل هذه الحضارة لما شاهدنا التبرم والضجر والألم وحوادث
الانتحار في البلدان الراقية من هذا النهج الذي ارتضته البشرية لنفسها.
ـ أما إذا انحرفنا عن تلك
الغاية السامية من وجودنا التي هي الحياة الطيبة بأسمى معانيها فإن الهلاك يصبح محققاً وذلك لكي لا
تزداد شرورنا ويزداد ألمنا وحسرتنا يوم الدين.
ـ
فالله أعلم بمن خلق وأعلم بما يسعد نفوسهم، أو ليس الذي أبدع السموات والأرض وأسبغ علينا
نعمه ظاهرة وباطنة بقادر أن يضع لنا سنناً تكفل لنا سعادة الدارين؟
بعث
الرسول:
ـ
بلى ولكن خروج الناس عما أنزل من الشرائع الكفيلة بسعادتها ورقيّها هو الذي سبب لها النكبات
وسبب لها الألم والشقاء ومن أجل ذلك يبعث الله تعالى إليهم رسولاً من أنفسهم ويتلو عليهم آياته وشرائعه ويأمرهم
أن يطيعوا الله
ورسوله
بتطبيق تلك الشرائع ويحذرهم ويعظهم من الهلاك إذا انحرفوا عنها واستبدلوها بشرائع من
وحي أهوائهم.
قال
تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} سورة القصص (59).
ـ
والمسيح عليه السلام هو رسول هذا العصر وهو الذي أرجأه الله تعالى لهذه الساعة هلاك القرى
وجعله علماً لها من أعظم أشراطها: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
سورة الزخرف (61).
رجل
الساعة:
ـ
نقول المنارة علماً للبر أي برؤية المنارة نعلم بوجود البر إن كنا تائهين بسفن بالبحار. فالمسيح
عليه السلام علماً للساعة وأما الأدلة القرآنية التي تنبئ عن مجيئه فإليك هي:
الدليل
الأول:
قال
تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَجَاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ فِيمَا
كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سورة آل عمران (55).
ـ
لقد جاء عيسى بن مريم عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل فاصطدم بعلمائهم من (الفرِّيسيين) بعد
أن رأوا مخالفته لأقوالهم ولما جاء به أجدادهم من التفسيرات التي لم ينزل الله بها من سلطان، ولما رأوا أمرهم
سينكشف للناس
راحوا
يقاوموه بشتى الوسائل حتى تمكنوا من صد الناس عنه، وما صدوا إلا الذين هم على شاكلتهم،
ولم ينتهوا عند الكفر به والصد عن سبيل الله بل راحوا يمكرون به قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى
مِنْهُمُ الْكُفْرَ..}:
بكفرهم ومكرهم. {..قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ..}: أي من يبايعني على النصر أو
الموت. {..قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ،
رَبَّنَا آمَنَّا
بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}: ذلك
أن المسألة خرجت عن نطاق المناقشات الكلامية وتطورت إلى الاحتكام إلى شبه الأسنة.
ـ مكرت بنوا إسرائيل واستعد السيد المسيح والذين آمنوا معه وهم
أحد عشر رجلاً ولكن الله جلّت قدرته رأى الحواريين أقلة فدبَّر لأمرٍ فيه الخير لهؤلاء وهؤلاء. {وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللَّهُ
وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ..}: تألم على نفسه وأخذ الحزن منه كل مأخذ وظن
أن الله جل وعلا
لم
يقدِّر على يديه هداية قومه لوفاته ونتيجة إعراضهم وكفرهم لأنه بهدايتهم سعادتهم
وسعادته يوم القيامة وبالتالي رفعته، عندئذ طمأنه تعالى، إذ قال تعالى: {..وَرَافِعُكَ إِلَيَّ..}: أي بأعمالك
العالية لإنقاذ البشرية. {وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} سورة فاطر (10).
ـ
والوفاة لا تعني الموت فحسب بل النوم يسمى وفاة أيضاً، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ..} سورة الأنعام (60).
{اللَّهُ
يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا..}
سورة الزمر (42).
فالنوم
وفاة إذاً، أما وفاة الموت فتكون على يد ملك الموت الموكل بوضع الروح حين الولادة
إذ هو أيضاً الذي يقبضها عند الموت.
قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} سورة السجدة (11).
{إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ..} سورة النساء (97).
معنى
الوفاة:
ـ فمعنى الوفاة هنا أخذ الإرادة والاختيار من
سيدنا عيسى عليه السلام
بإنامته،
فالله يتوفى الأنفس التي أخذ منها إرادتها واختيارها، لذا فالأعمال التي تصدر من النائم لا يؤاخذ عليها إن اتخذ
الحيطة لنفسه قبل
نومه.
الرفعة:
ـ وإذاً
فليس المراد من كلمة: {..وَرَافِعُكَ إِلَيَّ..}ما يتبادر إلى
الأذهان، أذهان بعض الناس من أنه رُفِعَ إلى السماء. فإن الآية جاءت صريحة بقوله
تعالى: {..وَرَافِعُكَ إِلَيَّ..} ولم تقل ورافعك إلى السماء، والله تعالى
هذا الخالق العظيم، الذي لا نهاية له، مُنزَّهٌ عن أن يُحيط به زمان ومكان، فهو
خالق الزمان والمكان.
ثم إنَّ
السماء والأرض عند الله تعالى سيَّان في المنزلة والشأن، وكلاهما مخلوق، وليس يرفع
من شأن الإنسان رفعهُ إلى السماء، إنَّما الذي يرفع الإنسان إلى خالقه ويدنيه من
جنابه الكريم، عمله العالي، وجهاده في سبيل الله، ودعوته الناس إلى طريق الحق،
وهدايتهم إلى الصراط المستقيم. وإذاً فالذي جاءت به الآية الكريمة ليس رفعاً
جسمياً، إنَّما هو رفع المنزلة والشأن نقول: رفع الأمير فلاناً إليه، أي أدناه منه
منزلة ومكانة، لا جسمياً ومكاناً.
قال تعالى: {..وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ..} سورة فاطر (10).
{وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا،وَرَفَعْنَاهُ
مَكَانًا عَلِيًّا} (56ــ57) سورة
مريم. {..يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..} سورة المجادلة (11).
ـ فالله
سبحانه طمأَنَ المسيح عليه السلام بأنه رافعه إليه بهذه النية العالية إلا أن الرفعة
لن تكون الآن إذ أن قومك أبوا أن يؤمنوا لك وأصروا على كفرهم فما استحقوا إنعامي عليهم لذلك فإني مُلقٍ عليك
سُنّةً من النوم
الآن
ورافعك بعد هذا النوم الذي يمتد قروناً بالأعمال الكبرى التي سأرزقك بها وبها
إسلام العالم كله على يديك وذلك بنيتك العالية.
أقول:
والذي ينفي أيضاً رفع سيدنا عيسى عليه السلام إلى السماء قوله تعالى في سورة
المؤمنون (50): {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا
إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}: والربوة: هي المكان المرتفع
من الأرض. والقرار: هو الجبل الراسخ المستقر. والمعين: الماء الجاري
الذي لا ينقطع.
عن أبي
أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: {..وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى
رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}. «قال أتدرون أين هي؟. قالوا الله
ورسوله أعلم. قال: هي بالشام بأرض يقال لها الغوطة، في مدينة يقال لها دمشق هي خير
مدن الشام».
أخرجه ابن عساكر، وهذا ما رواه
البيضاوي في تفسيره، والمؤرخ ابن جبير في كتابه "تذكرة الأخبار عن اتفاقات
الأسفار" أنَّ هذا الإيواء إِنَّما كان إلى ربوة دمشق، وجاء في بعض الآثار،
أن ظهور سيدنا عيسى عليه السلام في آخر الزمان، سيكون في دمشق.
زوال الكفر:
قال
تعالى: {..وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا..}: عندها سأزيل دول الكفر ولن تقوم لهم
قائمة أبداً إلى يوم القيامة. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ..}: وسوف أجعل الذين يتبعوك عندها: {..فَوْقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: عندها تكون في هذه الأمة وجيهاً في الدنيا والآخرة وبهذه الآية
يبين أن ساعة القيامة تقوم على خيار الخلق والساعة التي تقع بزمن السيد المسيح عليه السلام تقوم على شرار
الخلق.
وفي
الحديث الشريف:«..لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» الجامع الصغير، للسيوطي.
الدليل
الثاني: البينة
بسم الله
الرحمن الرحيم
{لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ
مِنَ اللَّهِ
يَتْلُوا
صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} سورة البينة (1 ـ 5).
ـ
أي أن الذين كفروا من أهل الكتاب وهم اليهود، والمشركين وهم النصارى لم ينفكوا عما هم فيه من
كفرهم وإشراكهم، كما لن ينفكوا عن اختلافهم من تكذيب اليهود للمسيح صلى الله عليه وسلم واختلاف النصارى في
طبيعته حتى تأتيهم
هذه
البينة، وهذه البينة وصفها الله تعالى بأنها: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً}. {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: (اليهود) إلى يهود ونصارى. {إِلاَّ مِنْ
بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَةُ}: سيدنا عيسى عليه السلام. {وَمَا أُمِرُوا..}: هؤلاء وهؤلاء. {..إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ}.
ـ
لقد كان المسيح عليه السلام بينة في ولادته من غير أب، ثم حمْله ووضعه في فترة وجيزة بينة وأية
بينة، وتكليم الناس في المهد وخلقه من طين كهيئة الطير فينفخ فيه فيصبح بإذن الله طيراً، ثم إحياء الموتى
بإذن الله وإبراء
الأكمهْ
والأبرص، كلها تعتبر آيات بينات لمن شاء أن يؤمن.
ـ كذلك فإن مجيئه بعد عشرين قرناً ليكلم الناس يعتبر بيِّنة على أنه رسول
الله،، إذن حياة هذا
الرسول
العظيم كلها بينة ولا عجب بعد هذا أن يدعوه الله تعالى بالبينة.
ـ
لا جزية بعد ظهور السيد المسيح عليه السلام:
فلم
يكن اليهود والنصارى منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسولهم المسيح عليه السلام، فلذلك فإن
رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام لم يحلَّ الخلاف بين اليهود والنصارى إلا بالتي هي أحسن فحينما كان يحارب عبَّاد
الصنم والنار
يشترط
الحرب أو الإسلام.
ـ وإن كانوا أهل كتاب فكانت الشروط ثلاثة: (الإسلام، أو
الجزية، أو الحرب)
فإن
أسلموا فتلك الغاية وإن أبوا فدفع الجزية وإلا الحرب حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية التي
بحقيقتها رمز لعلهم يسلمون فإذا أسلموا للحق ارتفعت عنهم وأعيد لهم عزهم وأصبح لهم ما للمسلمين. فهم لهم
إخواناً سواء، لهم ما
لهم
من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات معزوزين مكرمين فلا تمايز عنصري ولا طائفي كيف لا فقد
اهتدوا.
الدليل
الثالث:
وجاهة
السيد المسيح عليه السلام:
{إِذْ قَالَتِ
الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي
الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً
وَمِنَ الصَّالِحِينَ} سورة آل عمران (45-46).
فالآية
تبين أن السيد المسيح سيكون وجيهاً في الدنيا وفي الآخــرة، فـإذا كــانت وجـاهـة الآخرة
لا ريب فيها فوجاهة الدنيا لم تحصل له بعد، ففي فترة قدومه الأولى لم يكن الذين معه يتجاوزون الأحد عشر،
لذا فتلك الوجاهة
هي
التي ستكون له عند عودته ثانية، فيؤمن به كل من بقي حيّاً تقريباً فيصبح الملك العالمي
للناس قاطبة: «يأتي على سحابة من المجد» ويغدو
للعالمين إماماً إذ يؤمُّ إليه رجال الزمن وإلى أمه عليه السلام النساء جميعهن.
ـ
كلام الكهل ليس بمعجزة إلاَّ:
والآية
الثانية بقضية تكليمه بالمهد فكلامه يعتبر بحق معجزة، أمــا أن يــكلم الناس كهلاً
فليس بمعجزة، إلاَّ إذا غاب حيناً من الدهر يتجاوز أضعافاً مضاعفة من عمر الإنسان الوسطي، ثم يعود ليكلِّم
الناس بنفس العمر
كهلاً:
مجيئه بعد عشرين قرناً تقريباً معجزة عظمى، وهو بنفس السن
الذي توفاه الله به.
أما
وقد تكلمنا عن مجيئه فعلينا حتى يكمل البحث أن نشرح الغاية التي يأتي من أجلها.
ـ
إن القرآن جاء بأعلى مستوى وأكمله من التشريع والتنظيم والبرهان، وفي الحدود التي ارتضاها
رب العالمين للبشرية، وهذه الحدود تبقى في المجال الذي لا ينصرف به الإنسان كلياً إلى الدنيا، وتمتص كل
طاقاته الفكرية
والنفسية
والجسمية. فأرضية المجتمع الديني، والمناخ الذي يجب أن يعيش فيه الإنسان ويتلاءم مع
معتقداته، هو مجتمع لا يتجاوز مستواه الحضاري مستوى التعقيد وامتصاص طاقات الإنسان لدنياه فقط، لأن التجاوز عن
هذا المستوى
يولد
الشقاء والألم والظلم والتفرقة، تماماً كما نلحظه في هذا العصر، وكل زيادة على هذا
المستوى، يعتبر فساداً وإفساداً، واطمئناناً إلى الدنيا، وانصرافاً عن الغاية التي جاء من أجلها الإنسان.
ـ
لذلك فالسيد المسيح عليه السلام عند مجيئه، لن يحمل معه إنجيلاً يستوعب حضارة هذا القرن، ولن
يصحِّح القرآن، لأنه كتاب لا يدخل عليه الباطل، بل يأتي ليمحو الصدأ الذي حجب الناس عن القرآن من تلك التفاسير
الضحلة، ومن
كثرة
التفاسير المضلِّلة، التي فرَّقت الناس إلى أحزاب وشيع، كل حزب بما لديهم فرحون، هذه الدعوة
نفسها عندما أراد عليه السلام من قبل أن يجلو الصدأ الذي تراكم على التوراة، نتيجة التفاسير الباطلة، والتحريف
المقصود من
علماء
بني إسرائيل، ولكن عند مجيئه الثاني مهما يلاقِ هذا الرسول الكريم من التحدي من قبل بعض
علماء الأديان الثلاثة، أو من الذين يتبعونهم بغير علم، فالله سينصره هو والذين آمنوا معه، وسيجعل عداءهم له
حسرةً في قلوبهم
إلى
يوم يلقونه، وعندئذ سيحكم تعالى بينهم وهو خير الحاكمين.
انتهاء
جولات الباطل:
{وَإِن مِّنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ..} سورة النساء (159).
ـ إن الدين بدأ غريباً. فقـد بــدأ الرسول صلى الله عليه
وسلم بدعوته لقومٍ قد مزقت الخلافات وحدتهم، وأبعدت القبلية تضامنهم، وكانوا عبارةً عن قبائل متفرقةٍ، ودويلاتٍ
تستخدمها دول أجنبية
كبرى،
وبين أظهرهم أمة تعالت عليهم بما لهم (أبناؤها) من ماضٍ مجيد، ويستفتحون عليهم بما
يعتقدون بأنَّ رسولاً اسمه أحمد أي: (أحمد الخلق اسماهم وأعلاهم) قد قارب زمانه، وبمجيئه سينتصرون على
العرب، ويأخذون
ديارهم
وأملاكهم، ويصبحون أسيادهم. هذا الوضع قبل أربعة عشر قرناً، (يشبه ضمناً وضعنا الحالي).
ـ فالأمة العربية
خاصة، والإسلامية عامة، قد مزّقتها الخلافات إلى شيعٍ ودويلات متناحرة، تسيِّر قسماً منها دول
استعمارية كبرى، وبين
أظْهُرِها أمةٌ يتعالون علينا الآن بحاضرهم، وهم الآن كما كانوا بالأمس ينتظرون ظهور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
فهم الآن ينتظرون
قدوم السيد المسيح في أرض الميعاد فلسطين، ليكون الملك العالمي.
فالدين أصبح غريباً، إذ
ما من أحدٍ تقريباً يأمل أن تقوم للدين بعد اليوم قائمة، لأن عصر الأديان
باعتقادهم قد ولّى منذ زمن بعيد، وإلى غير رجعة .
ألا
إن الزمان قد دار دورته، وعاد الوضع كما بدأ. في هذا الزمان الذي كفرت الناس بالله وكتبه
ورسله واليوم الآخر سيظهر الدين غريباً كما بدأ قبل أربعة عشر قرناً{..وَيَأْبَى
اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} سورة التوبة
(32).
فطوبى
للمؤمنين الغرباء بقدوم الرسول السيد المسيح عليه السلام، فقد آن