الباب الثاني عشر
طي السر
ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وأن يرى أنه عز هاة خلى. ويأبى السر الدقيق، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر. وقد يمكن التمويه في أول الأمر على غير ذي الحس اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال، وربما يكون السبب في الكتمان تصاون المحب عن أن يسم نفسه بهذه السمة عند الناس، لأنها بزعمه من صفات أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى، وما هذا وجه التصحيح، فبحسب المرء المسلم أن يعف عن محارم الله عز وجل التي يأتيها باختياره ويحاسب عليها يوم القيامة. وأما استحسان الحسن وتمكن الحب فطبع لا يؤمر به ولا ينهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها، ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في فرق ما بين الخطأ والصواب وأن يعتقد الصحيح باليقين. وأما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة. وفي ذلك أقول:
يلوم رجال فيك لم يعرفوا الهوى وسيان عندي فيك لا ح وساكت
يقولون جانبت التصاون جـمـلة وأنت عليهم بالشريعة قـانـت
فقلت لهم هذا الرياء بـعـينـه صراحاً وزي للمرائين ماقـت
متى جاء تحريم الهوى عن محمد وهل منعه في محكم الذكر ثابت
إذا لم أواقع محرماً أتـقـى بـه محبي يوم البعث والوجه باهت
فلست أبالي في الهوى قول لأئم سواء لعمري جاهر أو مخافت
وهل يلزم الإنسان إلا اخـتـياره وهل بخبايا اللفظ يؤخذ صامـت
خبر: وإني لأعرف بعض من امتحن بشيء من هذا فسكن الوجد بين جوانحه، فرام جحده إلى أن غلظ الأمر، وعرف ذلك في شمائله من تعرض للمعرفة ومن لم يتعرض. وكان من عرض له بشيء نجهه وقبحه. إلى أن كان من أراد الحظوة لديه من إخوانه يوهمه تصديقه في إنكاره وتكذيب من ظن به غير ذلك، فسر بهذا. ولعهدي به يوماً قاعداً ومعه بعض من كان يعرض له بما في ضميره، وهو ينتفي غاية الانتفاء، إذ اجتاز بهما الشخص الذي كان يتهم بعلاقته، فما هو إلا أن وقعت عينه على محبوبه حتى اضطرب وفارق هيئته الأولى واصفر لونه وتفاوتت معاني كلامه بعد حسن تثقيف، فقطع كلامه المتكلم معه. فلقد استدعى ما كان فيه من ذكره. فقيل له: ما عدا عما بدا. فقال: هو ما تظنون، عذر من عذر، وعذل من عذل. ففي ذلك أقول شعراً، منه:
ما عاش إلا لأن الموت يرحمه مما يرى من تباريح الضنى فيه
وأنا أقول:
دموع الصب تنسفك وسائر الصب ينتهك
كأن القلب إذ يبـدو قطاة ضمها شرك
فيا أصحابنا قولـوا فإن الرأي مشترك
إلى كم ذا أكاتـمـه وما لي عنه مترك
وهذا إنما يعرض عند مقاومة طبع الكتمان، والتصاون لطبع المحب وغلبته، فيكون صاحبه متحيراً بين نارين محرقتين. وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع. وفي ذلك أقول:
درى الناس أني فتى عاشـق كئيب معنى ولكـن بـمـن
إذا عاينوا حالتـي أيقـنـوا وإن فتشوا رجعوا في الظنن
كخط يرى رسمه ظـاهـراً وإن طلبوا شرحه لـم يبـن
كصوت حمام عـلـى أيكة يرجع بالصوت في كل فن
تلذ بفحـواه أسـمـاعـنـا ومعناه مستعجـم لـم يبـن
يقولون بلـلـه سـم الـذي نفى حبه عنك طيب الوسن
وهيهات دون الذي حاولـوا ذهاب العقول وخوض الفتن
فهم أبداً في اختلاج الشكوك بظن كقطع وقطع كـظـن
وفي كتمان السر أقول قطعة، منها:
للسر عندي مكـان لـو يحـل بـه حى إذاً لا اهتدى ريب المنون لـه
أميته وحـياة الـسـر مـيتـتـه كما سرور المعنى في الهوى الوله
وربما كان سبب الكتمان توقي المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب.
خبر: ولقد قال بعض الشعراء بقرطبة شعراً تغزل فيه بصبح أم المؤيد رحمه الله. فغنت به جارية أدخلت على المنصور محمد بن أبي عامر ليبتاعها، فأمر بقتلها.
خبر:
وعلى مثل هذا قتل أحمد بن مغيث. واستئصال آل مغيث والتسجيل عليهم ألا يستخدم بواحد منهم أبداً حتى كان سبباً لهلاكهم وانقراض بيتهم فلم يبق منهم إلا الشريد الضال. وكان سبب ذلك تغزله بإحدى بنات الخلفاء ومثل هذا كثير.
ويحكى عن الحسن بن هانئ أنه كان مغرماً بحب محمد بن خارون المعروف بابن زبيدة. وأحس منه ببعض ذلك فانتهره، على إدامة النظر إليه. فذكر عنه أنه قال إنه كان لا يقدر أن يديم النظر إليه إلا مع غلبة السكر على محمد. وربما كان سبب الكتمان ألا ينفر المحبوب أو ينفر به. فإني أدري من كان محبوبة له سكناً وجليساً، لوباح بأقل سبب من أنه يهواه لكان منه مناط الثريا قد تعلت نجومها. وهذا ضرب من السياسة، ولقد كان يبلغ من انبساط هذا المذكور مع محبوبه إلى فوق الغابة وأبعد النهاية، فما هو إلا أن باح إليه بما يجد فصار لا يصل إلى التافه اليسير مع التيه ودالة الحب وتمنع الثقة بملك الفؤاد، وذهب ذلك الإنبساط ووقع التصنع والتجني، فكان أخاً فصار عبداً، ونظيراً فعاد أسيراً، ولو زاد في بوحه شيئاً إلى أن يعلم خاصة المحبوب ذلك لما رآه إلا في الطيف، ولا نقطع القليل والكثير، ولعاد عليه بالضرر.
وربما كان من أسباب الكتمان الحياء الغالب على الإنسان، وربما كان من أسباب الكتمان أن يرى المحب من محبوبه انحرافاً وصداً ويكون ذا نفس أبية، فيستتر بما يجد لئلا يشمت به عدو، أو يريهم ومن يحب هوان ذلك عليه.
طي السر
ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وأن يرى أنه عز هاة خلى. ويأبى السر الدقيق، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر. وقد يمكن التمويه في أول الأمر على غير ذي الحس اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال، وربما يكون السبب في الكتمان تصاون المحب عن أن يسم نفسه بهذه السمة عند الناس، لأنها بزعمه من صفات أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى، وما هذا وجه التصحيح، فبحسب المرء المسلم أن يعف عن محارم الله عز وجل التي يأتيها باختياره ويحاسب عليها يوم القيامة. وأما استحسان الحسن وتمكن الحب فطبع لا يؤمر به ولا ينهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها، ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في فرق ما بين الخطأ والصواب وأن يعتقد الصحيح باليقين. وأما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة. وفي ذلك أقول:
يلوم رجال فيك لم يعرفوا الهوى وسيان عندي فيك لا ح وساكت
يقولون جانبت التصاون جـمـلة وأنت عليهم بالشريعة قـانـت
فقلت لهم هذا الرياء بـعـينـه صراحاً وزي للمرائين ماقـت
متى جاء تحريم الهوى عن محمد وهل منعه في محكم الذكر ثابت
إذا لم أواقع محرماً أتـقـى بـه محبي يوم البعث والوجه باهت
فلست أبالي في الهوى قول لأئم سواء لعمري جاهر أو مخافت
وهل يلزم الإنسان إلا اخـتـياره وهل بخبايا اللفظ يؤخذ صامـت
خبر: وإني لأعرف بعض من امتحن بشيء من هذا فسكن الوجد بين جوانحه، فرام جحده إلى أن غلظ الأمر، وعرف ذلك في شمائله من تعرض للمعرفة ومن لم يتعرض. وكان من عرض له بشيء نجهه وقبحه. إلى أن كان من أراد الحظوة لديه من إخوانه يوهمه تصديقه في إنكاره وتكذيب من ظن به غير ذلك، فسر بهذا. ولعهدي به يوماً قاعداً ومعه بعض من كان يعرض له بما في ضميره، وهو ينتفي غاية الانتفاء، إذ اجتاز بهما الشخص الذي كان يتهم بعلاقته، فما هو إلا أن وقعت عينه على محبوبه حتى اضطرب وفارق هيئته الأولى واصفر لونه وتفاوتت معاني كلامه بعد حسن تثقيف، فقطع كلامه المتكلم معه. فلقد استدعى ما كان فيه من ذكره. فقيل له: ما عدا عما بدا. فقال: هو ما تظنون، عذر من عذر، وعذل من عذل. ففي ذلك أقول شعراً، منه:
ما عاش إلا لأن الموت يرحمه مما يرى من تباريح الضنى فيه
وأنا أقول:
دموع الصب تنسفك وسائر الصب ينتهك
كأن القلب إذ يبـدو قطاة ضمها شرك
فيا أصحابنا قولـوا فإن الرأي مشترك
إلى كم ذا أكاتـمـه وما لي عنه مترك
وهذا إنما يعرض عند مقاومة طبع الكتمان، والتصاون لطبع المحب وغلبته، فيكون صاحبه متحيراً بين نارين محرقتين. وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع. وفي ذلك أقول:
درى الناس أني فتى عاشـق كئيب معنى ولكـن بـمـن
إذا عاينوا حالتـي أيقـنـوا وإن فتشوا رجعوا في الظنن
كخط يرى رسمه ظـاهـراً وإن طلبوا شرحه لـم يبـن
كصوت حمام عـلـى أيكة يرجع بالصوت في كل فن
تلذ بفحـواه أسـمـاعـنـا ومعناه مستعجـم لـم يبـن
يقولون بلـلـه سـم الـذي نفى حبه عنك طيب الوسن
وهيهات دون الذي حاولـوا ذهاب العقول وخوض الفتن
فهم أبداً في اختلاج الشكوك بظن كقطع وقطع كـظـن
وفي كتمان السر أقول قطعة، منها:
للسر عندي مكـان لـو يحـل بـه حى إذاً لا اهتدى ريب المنون لـه
أميته وحـياة الـسـر مـيتـتـه كما سرور المعنى في الهوى الوله
وربما كان سبب الكتمان توقي المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب.
خبر: ولقد قال بعض الشعراء بقرطبة شعراً تغزل فيه بصبح أم المؤيد رحمه الله. فغنت به جارية أدخلت على المنصور محمد بن أبي عامر ليبتاعها، فأمر بقتلها.
خبر:
وعلى مثل هذا قتل أحمد بن مغيث. واستئصال آل مغيث والتسجيل عليهم ألا يستخدم بواحد منهم أبداً حتى كان سبباً لهلاكهم وانقراض بيتهم فلم يبق منهم إلا الشريد الضال. وكان سبب ذلك تغزله بإحدى بنات الخلفاء ومثل هذا كثير.
ويحكى عن الحسن بن هانئ أنه كان مغرماً بحب محمد بن خارون المعروف بابن زبيدة. وأحس منه ببعض ذلك فانتهره، على إدامة النظر إليه. فذكر عنه أنه قال إنه كان لا يقدر أن يديم النظر إليه إلا مع غلبة السكر على محمد. وربما كان سبب الكتمان ألا ينفر المحبوب أو ينفر به. فإني أدري من كان محبوبة له سكناً وجليساً، لوباح بأقل سبب من أنه يهواه لكان منه مناط الثريا قد تعلت نجومها. وهذا ضرب من السياسة، ولقد كان يبلغ من انبساط هذا المذكور مع محبوبه إلى فوق الغابة وأبعد النهاية، فما هو إلا أن باح إليه بما يجد فصار لا يصل إلى التافه اليسير مع التيه ودالة الحب وتمنع الثقة بملك الفؤاد، وذهب ذلك الإنبساط ووقع التصنع والتجني، فكان أخاً فصار عبداً، ونظيراً فعاد أسيراً، ولو زاد في بوحه شيئاً إلى أن يعلم خاصة المحبوب ذلك لما رآه إلا في الطيف، ولا نقطع القليل والكثير، ولعاد عليه بالضرر.
وربما كان من أسباب الكتمان الحياء الغالب على الإنسان، وربما كان من أسباب الكتمان أن يرى المحب من محبوبه انحرافاً وصداً ويكون ذا نفس أبية، فيستتر بما يجد لئلا يشمت به عدو، أو يريهم ومن يحب هوان ذلك عليه.