الباب الثامن عسر
الرقيب
ومن آفات الحب الرقيب، وإنه لحمى باطنة، وبرسام ملح، وفكر مكب. والرقباء أقسام، فأولهم مثقل بالجلوس غير متعمد في مكان اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيء من سرهما والبوح بوجدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمحب من القلق بهذه الصفة مالا يعرض له مما هو أشد منها، وهذا وإن كان يزول سريعاً فهو عائق حال دون المراد وقطع متوفر الرجاء.
خبر: ولقد شاهدت يوماً محبين تفي مكان قد ظنا أنهما انفردا فيه وتأهبا للشكوى فاستحليا ما هما فيه من الخلوة، ولم يكن الموضع حمي، فلم يلبثا أن طلع عليهما من كانا يستثقلانه، فرأى فعدل إلي وأطال الجلوس معي، فلو رأيت الفتى المحب وقد تمازج الأسف البادي على وجهه مع الغضب لرأيت عجباً. وفي ذلك أقول قطعة، منها:
يطيل جلوساً وهو أثقل جالـس ويبدي حديثاً لست أرضى فنونه
شمام ورضوى واللكام ويذبـل ولبنان والصمان والحرب دونه
ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطرف، وتوجس من مذهبهما شيئاً، فهو يريد أن يستبين حقيقة ذلك، فيدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتخفى بالحركات، ويرمق الوجوه، ويحصل الأنفاس. وهذا أعدى من الحرب، وإني لأعرف من هم أن يباطش رقيباً هذه صفته. وفي ذلك أقول قطعة، منها:
مواصل لا يغب قصـداً أعظم بهذا الوصال غما
صار وصرنا لفرط مالاً يزول كالاسم والمسمى
ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلا بترضية. وإذا أرضى فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرته الشعراء في أشعارها.
ولقد شاهدت من تلطف في استرضاء رقيب حتى صار الرقيب عليه رقيباً له، ومتغافلاً في وقت التغافل، ودافعاً عنه وساعياً له. ففي ذلك أقول:
ورب رقيب ارقبوه فلـم يزل على سيدي عمداً ليبعدني عنه
فما زالت الألطاف تحكم أمره إلى أن غدا خوفي له آمناً منه
وكان حساماً سل حتى يهدنـي فعاد محباً مالنعمتـه كـنـه
وأقول قطعة، منها:
صار حياة وكان سهم ردي وكان سما فصار درياقـاً
وإني لأعرف من رقب على بعض من كان يشفق عليه رقيباً وثق به عند نفسه، فكان أعظم الآفة عليه وأصل البلاء فيه.
وأما إذا لم يكن في الرقيب حيلة ولا وجد إلى ترضيه سبيل فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همساً وبالحاجب أحياناً والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك متعة وبلاغ إلى حين يقنع به المشتاق. وفي ذلك أقول شعراً أوله:
على سيدي مني رقيب محافظ وفي لمن والاه ليس بناكـث
ومنه:
ويقطع أسباب اللبانة في الهولاي ويفعل فيها فعل بعض الحوارث
كأن له في قلـبـه ريبة تـرى وفي كل عين مخبر بالأحـادث
ومنه:
على كل من حولي رقيان رتـبـا وقد خصني ذو العرش منهم بثالث
وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهى به وطالت مدته فيه ثم عرى عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانة من رقب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأبي منه، وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته. وفي ذلك أقول:
رقيب طالما عرف الغـرامـا وقاسى الوجد وامتنع المنامـا
ولاقى في الهوى ألما ألـيمـا وكاد الحب يورده الحمـامـا
وأتقن حلية الصب المعـنـى ولم يضع الإشارة والكـلامـا
وأعقبه التسلـي بـعـد هـذا وصار يرى الهوى عاراً وذاما
وصير دون من أهوى رقيبـاً ليبعد عنه صباً مستـهـامـاً
فإي بلية صـبـت عـلـينـا وأي مصيبة حلت لـمـامـا
ومن طريف معاني الرقباء أني أعرف محبين مذهبهما واحد في حب محبوب واحد بعينه، فلعهدي بهما كل واحد منهما رقيب على صاحبه. وفي ذلك أقول:
صبان هيمانان فـي واحـد كلاهما عن خدنه منحرف
كالكلب في الآرى لا يعتلف ولايخلى الغير أن يعتلـف
الرقيب
ومن آفات الحب الرقيب، وإنه لحمى باطنة، وبرسام ملح، وفكر مكب. والرقباء أقسام، فأولهم مثقل بالجلوس غير متعمد في مكان اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيء من سرهما والبوح بوجدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمحب من القلق بهذه الصفة مالا يعرض له مما هو أشد منها، وهذا وإن كان يزول سريعاً فهو عائق حال دون المراد وقطع متوفر الرجاء.
خبر: ولقد شاهدت يوماً محبين تفي مكان قد ظنا أنهما انفردا فيه وتأهبا للشكوى فاستحليا ما هما فيه من الخلوة، ولم يكن الموضع حمي، فلم يلبثا أن طلع عليهما من كانا يستثقلانه، فرأى فعدل إلي وأطال الجلوس معي، فلو رأيت الفتى المحب وقد تمازج الأسف البادي على وجهه مع الغضب لرأيت عجباً. وفي ذلك أقول قطعة، منها:
يطيل جلوساً وهو أثقل جالـس ويبدي حديثاً لست أرضى فنونه
شمام ورضوى واللكام ويذبـل ولبنان والصمان والحرب دونه
ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطرف، وتوجس من مذهبهما شيئاً، فهو يريد أن يستبين حقيقة ذلك، فيدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتخفى بالحركات، ويرمق الوجوه، ويحصل الأنفاس. وهذا أعدى من الحرب، وإني لأعرف من هم أن يباطش رقيباً هذه صفته. وفي ذلك أقول قطعة، منها:
مواصل لا يغب قصـداً أعظم بهذا الوصال غما
صار وصرنا لفرط مالاً يزول كالاسم والمسمى
ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلا بترضية. وإذا أرضى فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرته الشعراء في أشعارها.
ولقد شاهدت من تلطف في استرضاء رقيب حتى صار الرقيب عليه رقيباً له، ومتغافلاً في وقت التغافل، ودافعاً عنه وساعياً له. ففي ذلك أقول:
ورب رقيب ارقبوه فلـم يزل على سيدي عمداً ليبعدني عنه
فما زالت الألطاف تحكم أمره إلى أن غدا خوفي له آمناً منه
وكان حساماً سل حتى يهدنـي فعاد محباً مالنعمتـه كـنـه
وأقول قطعة، منها:
صار حياة وكان سهم ردي وكان سما فصار درياقـاً
وإني لأعرف من رقب على بعض من كان يشفق عليه رقيباً وثق به عند نفسه، فكان أعظم الآفة عليه وأصل البلاء فيه.
وأما إذا لم يكن في الرقيب حيلة ولا وجد إلى ترضيه سبيل فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همساً وبالحاجب أحياناً والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك متعة وبلاغ إلى حين يقنع به المشتاق. وفي ذلك أقول شعراً أوله:
على سيدي مني رقيب محافظ وفي لمن والاه ليس بناكـث
ومنه:
ويقطع أسباب اللبانة في الهولاي ويفعل فيها فعل بعض الحوارث
كأن له في قلـبـه ريبة تـرى وفي كل عين مخبر بالأحـادث
ومنه:
على كل من حولي رقيان رتـبـا وقد خصني ذو العرش منهم بثالث
وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهى به وطالت مدته فيه ثم عرى عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانة من رقب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأبي منه، وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته. وفي ذلك أقول:
رقيب طالما عرف الغـرامـا وقاسى الوجد وامتنع المنامـا
ولاقى في الهوى ألما ألـيمـا وكاد الحب يورده الحمـامـا
وأتقن حلية الصب المعـنـى ولم يضع الإشارة والكـلامـا
وأعقبه التسلـي بـعـد هـذا وصار يرى الهوى عاراً وذاما
وصير دون من أهوى رقيبـاً ليبعد عنه صباً مستـهـامـاً
فإي بلية صـبـت عـلـينـا وأي مصيبة حلت لـمـامـا
ومن طريف معاني الرقباء أني أعرف محبين مذهبهما واحد في حب محبوب واحد بعينه، فلعهدي بهما كل واحد منهما رقيب على صاحبه. وفي ذلك أقول:
صبان هيمانان فـي واحـد كلاهما عن خدنه منحرف
كالكلب في الآرى لا يعتلف ولايخلى الغير أن يعتلـف