الباب السادس والعشرون
الضنى
ولا بد لكل محب صادق المودة ممنوع الوصل، إما ببين وإما بهجر وإما بكتمان واقع لمعنى، من أن يؤول إلى حد السقام والضنى والنحول، وربما أضجعه ذلك. وهذا الأمر كثير جداً موجود أبداً، والأعراض الواقعة من المحبة غير العلل الواقعة من هجمات العلل، ويميزها الطبيب الحاذق والمتفرس الناقد. وفي ذلك أقول:
يقول لي الطبيب بغير علم تداو فأنت يا هذا علـيل
ودائي ليس يدريه سوائي ورب قادر ملك جلـيل
أأكتمه ويكشفه شـهـيق يلازمني وإطراق طويل
ووجه شاهدات الحزن فيه وجسم كالخيال ضن نحيل
وأثبت ما يكون الأمر يوماً بلا شك إذا صح الدلـيل
فقلت له أبن عني قلـيلاً فلا والله تعرف ما تقول
فقال أرى نحولاً زادجـداً وعلتك التي تشكو ذبـول
فقلت له الذبول تعل مـنـه ال جوارح وهي حمى تستحـيل
وما أشكو لعمر اللـه حـمـى وإن الحر في جسمي قـلـيل
فقال أرى التفاتاً وارتـقـابـاً وأفكاراً وصـمـتـاً لا يزول
وأحسب أنها السوء فانـظـر لنفسك إنها عـرض ثـقـيل
فقلت له كلامـك ذا مـحـال فما للدمع من عينـي يسـيل
فأطرق بـاهـتـاً مـمـا رآه ألا في مثل ذا بهت النـبـيل
فقلت لـه دوائي مـنـه دائي ألا في مثل ذا ضلت عقـول
وشاهد ما أقول يرى عـيانـاً فروع النبت إن عكست أصول
وترياق الأفاعي لـيس شـيء سواه ببره ما لدغت كـفـيل
وحدثني أبو بكر محمد بن بقي الحجري، وكان حكيم الطبع عاقلاً فهيماً، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذكره، أنه كان ببغداد في خان من خاناتها فرأى ابنة لوكيلة الخان فأحبها وتزوجها، فلما خلا بها نظرت إليه وكانت بكراً، وهو قد تكشف لبعض حاجته، فراعها كبر أيره، ففرت إلى أمها وتفادت منه. فرام بها كل من حواليها أن ترد إليه، فأبت وكادت أن تموت، ففارقها ثم ندم، ورام أن يراجعها فلم يمكنه، واستعان بالأبهري وغيره. فلم يقدر أحد منهم على حيلة في أمره، فاختلط عقله وأقام في المارستان يعاني مدة طويلة حتى نقه وسلا وما كاد، ولقد كان إذا ذكرها يتنفس الصعداء.
قد تقدم في أشعاري المذكورة في هذه الرسالة: من صفة النحول مفرقاً ما استغنيت به عن أن أذكر هنا من سواها شيئاً خوف الإطالة. والله المعين والمستعان.
وربما ترقت إلى أن يغلب المرء على عقله ويحال بينه وبين ذهنه فيوسوس.
خبر: وإني لأعرف جارية من ذوات المناصب والجمال والشرف من بنات القواد، وقد بلغ بها حب فتى من إخواني جداً من أبناء الكتاب مبلغ هيجان المرار الأسود، وكادت تختلط. واشتهر الأمر وشاع جداً حتى علمه الأباعد، إلى أن تدوركت بالعلاج، وهذا إنما يتولد عن إدمان الفكر، فإذا غلبت الفكرة وتمكن الخلط وترك التداوي خرج الأمر عن حد الحب إلى حد الوله والجنون، وإذا أغفل التداوي في الأول إلى المعاناة قوى جداً ولم يوجد له دواء سوى الوصال. ومن بعض ما كتبت إليه قطعة، منها:
قد سلبت الفؤاد منها اختلاسـاً أي خلق يعـيش دون فـؤاد
فأغثها بالوصل تحي شريفـاً وتفز بالثواب يوم الـمـعـاد
وأراها تعتـاض أن دام هـذا من خلاخيلها حلـي الأقـياد
أنت حقاً متيم الشمس حـتـى عشقها بين ذا الورى لك بادي
خبر: وحدثني جعفر مولى أحمد بن محمد بن جدير، المعروف بالبلبيني: أن سبب اختلاط مروان بن يحيى بن أحمد بن جدير وذهاب عقله اعتلاقه بجارية لأخيه، فمنعها وباعها لغيره، وما كان في إخوته مثله ولا أتم أدباً منه.
وأخبرني أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة، أن سبب جنون يحيى بن أحمد بن عباس بن أبي عبدة بيع جارية له كان يجد بها وجداً شديداً، كانت أمه أباعتها وذهبت إلى إنكاحه من بعض العامريات.
فهذان رجلان جليلان مشهوران فقدا عقولهما واختلطا وصارا في القيود والأغلال، فأما مروان فأصابته ضربة مخطئة يوم دخول البربر قرطبة وانتهائهم إليها، فتوفى رحمه الله. وأما يحيى بن محمد فهو حي على حالته المذكورة في حين كتابتي لرسالتي هذه، وقد رأيته أنا مراراً وجالسته في القصر قبل أن يمتحن بهذه المحنة. وكان أستاذي وأستاذه الفقيه أبو الخيار اللغوي. وكان يحيى لعمري حلواً من الفتيان نبيلاً.
وأما من دون هذه الطبقة فقد رأينا منهم كثيراً، ولكن لم نسمهم لخفائهم وهذه درجة إذا بلغ المشغوف إليها فقد أنيت الرجاء وانصرم الطمع، فلا دواء له بالوصل ولا بغيره، إذ قد استحكم الفساد في الدماغ، وتلفت المعرفة وتغلبت الآفة. أعاذنا الله من البلاء بطوله، وكفانا النقم منه.
الضنى
ولا بد لكل محب صادق المودة ممنوع الوصل، إما ببين وإما بهجر وإما بكتمان واقع لمعنى، من أن يؤول إلى حد السقام والضنى والنحول، وربما أضجعه ذلك. وهذا الأمر كثير جداً موجود أبداً، والأعراض الواقعة من المحبة غير العلل الواقعة من هجمات العلل، ويميزها الطبيب الحاذق والمتفرس الناقد. وفي ذلك أقول:
يقول لي الطبيب بغير علم تداو فأنت يا هذا علـيل
ودائي ليس يدريه سوائي ورب قادر ملك جلـيل
أأكتمه ويكشفه شـهـيق يلازمني وإطراق طويل
ووجه شاهدات الحزن فيه وجسم كالخيال ضن نحيل
وأثبت ما يكون الأمر يوماً بلا شك إذا صح الدلـيل
فقلت له أبن عني قلـيلاً فلا والله تعرف ما تقول
فقال أرى نحولاً زادجـداً وعلتك التي تشكو ذبـول
فقلت له الذبول تعل مـنـه ال جوارح وهي حمى تستحـيل
وما أشكو لعمر اللـه حـمـى وإن الحر في جسمي قـلـيل
فقال أرى التفاتاً وارتـقـابـاً وأفكاراً وصـمـتـاً لا يزول
وأحسب أنها السوء فانـظـر لنفسك إنها عـرض ثـقـيل
فقلت له كلامـك ذا مـحـال فما للدمع من عينـي يسـيل
فأطرق بـاهـتـاً مـمـا رآه ألا في مثل ذا بهت النـبـيل
فقلت لـه دوائي مـنـه دائي ألا في مثل ذا ضلت عقـول
وشاهد ما أقول يرى عـيانـاً فروع النبت إن عكست أصول
وترياق الأفاعي لـيس شـيء سواه ببره ما لدغت كـفـيل
وحدثني أبو بكر محمد بن بقي الحجري، وكان حكيم الطبع عاقلاً فهيماً، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذكره، أنه كان ببغداد في خان من خاناتها فرأى ابنة لوكيلة الخان فأحبها وتزوجها، فلما خلا بها نظرت إليه وكانت بكراً، وهو قد تكشف لبعض حاجته، فراعها كبر أيره، ففرت إلى أمها وتفادت منه. فرام بها كل من حواليها أن ترد إليه، فأبت وكادت أن تموت، ففارقها ثم ندم، ورام أن يراجعها فلم يمكنه، واستعان بالأبهري وغيره. فلم يقدر أحد منهم على حيلة في أمره، فاختلط عقله وأقام في المارستان يعاني مدة طويلة حتى نقه وسلا وما كاد، ولقد كان إذا ذكرها يتنفس الصعداء.
قد تقدم في أشعاري المذكورة في هذه الرسالة: من صفة النحول مفرقاً ما استغنيت به عن أن أذكر هنا من سواها شيئاً خوف الإطالة. والله المعين والمستعان.
وربما ترقت إلى أن يغلب المرء على عقله ويحال بينه وبين ذهنه فيوسوس.
خبر: وإني لأعرف جارية من ذوات المناصب والجمال والشرف من بنات القواد، وقد بلغ بها حب فتى من إخواني جداً من أبناء الكتاب مبلغ هيجان المرار الأسود، وكادت تختلط. واشتهر الأمر وشاع جداً حتى علمه الأباعد، إلى أن تدوركت بالعلاج، وهذا إنما يتولد عن إدمان الفكر، فإذا غلبت الفكرة وتمكن الخلط وترك التداوي خرج الأمر عن حد الحب إلى حد الوله والجنون، وإذا أغفل التداوي في الأول إلى المعاناة قوى جداً ولم يوجد له دواء سوى الوصال. ومن بعض ما كتبت إليه قطعة، منها:
قد سلبت الفؤاد منها اختلاسـاً أي خلق يعـيش دون فـؤاد
فأغثها بالوصل تحي شريفـاً وتفز بالثواب يوم الـمـعـاد
وأراها تعتـاض أن دام هـذا من خلاخيلها حلـي الأقـياد
أنت حقاً متيم الشمس حـتـى عشقها بين ذا الورى لك بادي
خبر: وحدثني جعفر مولى أحمد بن محمد بن جدير، المعروف بالبلبيني: أن سبب اختلاط مروان بن يحيى بن أحمد بن جدير وذهاب عقله اعتلاقه بجارية لأخيه، فمنعها وباعها لغيره، وما كان في إخوته مثله ولا أتم أدباً منه.
وأخبرني أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة، أن سبب جنون يحيى بن أحمد بن عباس بن أبي عبدة بيع جارية له كان يجد بها وجداً شديداً، كانت أمه أباعتها وذهبت إلى إنكاحه من بعض العامريات.
فهذان رجلان جليلان مشهوران فقدا عقولهما واختلطا وصارا في القيود والأغلال، فأما مروان فأصابته ضربة مخطئة يوم دخول البربر قرطبة وانتهائهم إليها، فتوفى رحمه الله. وأما يحيى بن محمد فهو حي على حالته المذكورة في حين كتابتي لرسالتي هذه، وقد رأيته أنا مراراً وجالسته في القصر قبل أن يمتحن بهذه المحنة. وكان أستاذي وأستاذه الفقيه أبو الخيار اللغوي. وكان يحيى لعمري حلواً من الفتيان نبيلاً.
وأما من دون هذه الطبقة فقد رأينا منهم كثيراً، ولكن لم نسمهم لخفائهم وهذه درجة إذا بلغ المشغوف إليها فقد أنيت الرجاء وانصرم الطمع، فلا دواء له بالوصل ولا بغيره، إذ قد استحكم الفساد في الدماغ، وتلفت المعرفة وتغلبت الآفة. أعاذنا الله من البلاء بطوله، وكفانا النقم منه.