تسامح الإسلام مع غير المسلمين
حصر واستقراء النصوص والآثار
المتعلقة بتعامل المسلمين مع غيرهم
كتبه:
عبد الباسط بن يوسف الغريب
قال أبو الفوارس ( ):
ملكنا فكان العفو منـا سجية فلما ملكتم سـال بالدم أبطح
وحللتم قتـل الأسارى وطالما غدونا على الأسرى نمن ونصفح
وحسبكم هـذا التفاوت بيننا وكل إنـاء بالذي فيه ينضح
المقدمة
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن إقامة البراهين الدالة على سماحة الإسلام مع غيره من غير المسلمين كثيرة جداً من كتاب الله وسنة رسوله والسيرة النبوية والوقائع التاريخية, وقد شهد بذلك القاصي والداني, وشهد بذلك حتى غير المسلمين.
فهذا أحد المستشرقين وهو برناد لويس يقول عن تسامح المسلمين: "وفي نظرة المسلمين إلى المسيحية تسامح وتساهل أكثر بكثير مما في نظرة أوربا المسيحية المعاصرة التي تنظر إلى الإسلام على أنه باطل وشر. وهذه النظرة المتسامحة من المسلمين تنعكس في المعاملة الحسنة والتسامح الكبير الذي يلقاه أتباع الديانة المسيحية في المجتمعات الإسلامية بالرغم من موقف المسيحيين كديانة منافسة( ).
ويقول توماس أرنولد: "إن تسامح العرب كان وراء دخول الكثير في الإسلام"( ).
ويقول فيكتور سحاب: لا شك أن المسيحيين المخضرمين الذين عاصروا الفتح الإسلامي هم أكثر من لمس الأمر بوضوح، إذ انتقلوا فجأة من سلطان دولة كانت تضطهدهم اضطهاداً وصفه بعض المؤرخين العصريين في أوروبا بأنه لا يشبه حتى أعمال البهائم، إلى سلطان دولة حافظت لهم على أديارهم وبيعهم، كما خيرتهم بين اعتناق الإسلام، والبقاء على دينهم بشرط الدخول في ذمة المسلمين، أي بشرط الإنضمام إلى دولة الإسلام ورفض القتال مع أعدائها، وكان ( ألكيروس)- الكنيسة المصرية - متخفياً في الصحاري هرباً من المذابح البيزنطية؛ فلما جاء الفتح الإسلامي عادت الكنيسة المصرية إلى حرّيّتها الكاملة علناً، ولقد كان في الإسلام متسع للنصارى لم يكن متاحاً لهم شيء منه في دولة بيزنطية, وتمتعت المذاهب المسيحية العربية على اختلافها بعد ظهور الإسلام بالحرية التي كانت تقاتل من أجلها تحت حكم بيزنطة، ووقت كانت جميع الدول لا ترضى بدين آخر داخل تخومها( ).
وفي هذا البحث الاستقرائي من سنة المصطفى ، نعرض أوجه كثيرة من تسامح الإسلام مع شتى الديانات بمختلف أصنافها وتنوعها، ونعرض صوراً من هذا التسامح بمواقف مشرّفة من حياة نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي قال الله في حقه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وهو قدوة وأسوة المسلمين جميعاً, نسأل الله أن نكون قد وفقنا في جمع مادة هذا البحث, وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
منهج البحث
هذا الموضوع من الأهمية بمكان, وخصوصا في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه الطاعنون في دين الإسلام, ومحاولة تشويه حقيقته المشرفة، وإقامة البراهين الدالة على سماحة الإسلام مع غيره من غير المسلمين كثيرة جداً, وهذه النصوص والمواقف والنماذج العملية كثيرة ومبثوثة في بطون الكتب والمراجع, وتحتاج إلى بحث واستقراء وتأمل في الأحاديث والنصوص, فرب كلمة في حديث طويل دلت على المراد، كما في قصة مقتل عمر بن الخطاب لما طعن قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام( ). وعلى ذلك:
1- قمت باستقراء الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وكذلك الموطأ والدارمي ودلائل النبوة لأبي نعيم وللبيهقي، وكذلك "مستدرك" الحاكم.
2- بعد ذلك قمت باستقراء الكتب التي عنت بالزوائد على الكتب الستة كـ"المطالب العالية" لابن حجر، و"مجمع الزوائد" للهيثمي ،و"إتحاف الخيرة" للبوصيري، والزوائد على صحيح ابن حبان المسمى "موارد الظمآن".
3- كذلك قمت بالبحث والنظر في كتاب "المصنف" لابن أبي شيبة، و"المصنف" لعبد الرزاق الصنعاني، وكتاب "المعجم" لابن المقريء، و"البداية والنهاية" لابن كثير, وموسوعة الحافظ ابن حجر الحديثية، وكتب شيخنا الألباني رحمه الله، وغيرها، كذلك استفدت من الكمبيوتر في بحثي بواسطة أقراص الموسوعات الحديثية.
4- قمت بتخريج الأحاديث وعزوها إلى مصادرها وتوثيقها وبيان درجتها من الصحة أو الضعف في الأغلب، وقد اعتمدت توثيق شيخنا الألباني رحمه الله في ذلك في الأغلب.
5- أبقيت الأحاديث المرسلة وبلاغات ابن إسحق المتعلقة بالسيرة النبوية، وقمت بحذف الأحاديث التي في رواتها متروك أو كذاب أو شديدة الضعف في الأغلب.
6- بلغ مجموع الأحاديث والآثار التي قمت بجمعها أكثر من (370) بين حديث مرفوع أو أثر لصحابي أو قول لتابعي.
7- إذا كان الحديث في "الصحيحين" أو في أحدهما اكتفيت بالعزو إليها , فإن لم يوجد في واحد منهما , ووجد في السنن الأربعة اكتفيت بالعزو إليها, فإن لم يوجد في الكتب الستة عزوت الحديث حسب مصدره.
8- قمت بترجمة لأهم الأعلام الواردين في البحث.
9- قمت بذكر بعض فوائد الأحاديث والآثار.
وقد رتبت البحث على النحو الآتي:
الباب الأول:
تمهيد
- بيان أن الإسلام حث على خلق الرحمة مع غير المسلمين.
- بيان أن الإسلام دين هداية.
- التسامح في الاعتقاد والعبادة.
- الوصية بأهل الذمة والإحسان إلى أهل العهد.
- حرمة دماء أهل الذمة والعهد والمستأمنين.
- حرمة أموالهم وأعراضهم.
- حرمة أذيتهم وظلمهم.
- الوفاء بالعهود والمواثيق.
- جواز الصدقة على أهل الذمة والعهد والأمان إذا كانوا فقراء.
- الحكم بين أهل الذمة.
- قبول شهادة غير المسلمين.
- قبول شفاعتهم في بعض الأحوال.
- حكم السلام على غير المسلم ومصافحته.
- الاستئذان على المشركين.
- جواز إكرامهم.
- حل ذبائح أهل الكتاب.
- معاملتهم في البيع والشراء والتجارة والإجارة وغيرها من المعاملات.
- أخذ العلوم عنهم وتعلم لغتهم.
- جواز استطباب غير المسلم.
- حق الجوار لغير المسلم.
- عيادة غير المسلمين.
- الدعاء لهم بالهداية ونحو ذلك.
- مخالطة غير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم.
- التهادي معهم وقبول هداياهم.
- صلة الرحم للمشرك القريب.
- موافقة أهل الكتاب.
- تعزية الذمي ودفنه.
- الإرث والوصية.
- الزواج من أهل الكتاب.
- الرواية والحديث عنهم.
- الإحسان إليهم.
- قبول دعوتهم.
- المن عليهم بالعتق.
- العفو عنهم.
- العدل.
- مظاهر التسامح في الجهاد.
- مظاهر التسامح في الجزية.
10- الباب الثاني: قمت بعد ذلك بذكر القواعد والضوابط الفقهية والآداب السلوكية المستنبطة من الأحاديث والآثار المذكورة في الباب الأول لسماحة الإسلام مع نماذج تطبيقية على حسب مارتبناه في الباب الأول.
11- قمت بعمل فهرس للأحاديث النبوية المرفوعة والأثار الموقوفة عن الصحابة والتابعين , وفهرس عام .
الباب الأول
تمهيد:
الإسلام دين اليسر ورفع الحرج والمشقة؛ فلا عسر فيه ولا أغلال ولا آصار, وهذه ميزة للإسلام لا يشاركه فيها دين آخر, وقد كانت الأمم السابقة تكلف بتكاليف عسيرة, وفرض عليها فرائض شديدة, وذلك لكثرة عنادهم وشكوكهم، قال تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175]، وقال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [النساء:160]، وقال تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].
وقال النبي : ((دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم يسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم))( ).
وقال النبي : ((إنما بعثت بحنيفية سمحة))( ).
ومن هذا المنطلق فقد شمل الإسلام بيسره ورفقه الناس حتى غير المسلمين؛ فتسامح معهم في كثير من القضايا والأحكام, ومنحهم كثيراً من الحقوق( ). وقد تجلى هذا التسامح في رحمة الإسلام الواسعة. فمن أسماء الله تعالى الحسنى الرحمن الرحيم, ومن صفاته الرأفة والرحمة، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156].
قال الألوسي( ) رحمه الله في تفسير هذه الآية: " أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر، ولا مطيع ولا عاص، إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي"( ).
وبين الله أنه أرسل محمداً رحمة للخلق كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
فرحمة المسلمين لا تختص بهم فقط، بل هي شاملة لهم ولغيرهم من المخلوقات في الدنيا. فقد أمر أمته برحمة كل من أوجده الله تعالى على هذه الأرض، من إنسان وحيوان.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قَال: قال رسول الله : ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))( ).
و(من) الموصولة في قوله: (ارحموا من في الأرض)، شاملة للإنسان مسلما أو كافراً، وللحيوان كذلك، وعلى هذا حمله العلماء.
قال الحافظ ابن حجر( ) رحمه الله: "قال ابن بطال( ): فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب..."( ).
ونفى الله تعالى رحمته عمن لم يرحم الناس، كما في حديث جرير بن عبد الله ، قَال: قال رسول الله : ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس))( ).
وهو نفي عام يدخل فيه كل الناس، والنفي هنا للوعيد والتحذير والتنفير من الغلظة والشدة والعدوان على الناس، ولا يلزم منه حرمان من فقد الرحمة الواجبة من رحمة الله له في الدنيا، بمنحه الرزق والصحة والقوة المادية والذرية وغيرها، سواء كان من المسلمين أو غيرهم، ابتلاء له وامتحانا، لأن رحمة الله في الدنيا تعم جميع خلقه.
ومن الأدلة على شمول رحمة الخلق أن الله جعل من يقوم على اليتامى، بالإنفاق والكفالة الشاملة التي يحتاجون إليها، شركاء لرسوله في الجنة، كما في حديث سهل عن الرسول ، قال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً))( ).
وبين في حديث أبي هريرة أنه يستوي في هذه المنزلة من كفل يتيماً من أقاربه أو من غيرهم، فقال رسول الله : ((كافل اليتيم - له أو لغيره- أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار مالك بالسبابة والوسطى))( ).
وهو يشمل كذلك يتامى المسلمين وغيرهم، كما تدل عليه صيغة العموم، لأن "أل" في اليتيم للجنس.
وقد تعدت رحمة الإسلام حتى إلى الحيوان والطير، ومن أمثلة ذلك:
حديث أبي هريرة ، أن رسول الله قال: ((بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر))( ).
وصح عنه أنه أخبر أن الله غفر لامرأة بغي لسقيها كلباً اشتد عطشه. كما في حديث أبي هريرة: ((أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها))( ).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: كنا مع رسول الله في سفر فانطلق لحاجته؛ فرأينا حمّرة( ) معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش (أي ترفرف)، فجاء النبي فقال: ((من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها)), ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: ((من حرق هذه ؟)). قلنا: نحن. قال: ((إنه لاينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار))( ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ، قال: ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض))( ).
فإذا كانت هذه الرأفة والرحمة والتسامح مع الحيوان والطير؛ فلا شك أن بني آدم أولى بهذه الرحمة والرأفة بمختلف ألوانهم وأجناسهم.
حث الإسلام على خلق الرحمة مع غير المسلمين
وهنا سرد للأحاديث التي فيها الحث على خلق الرحمة.
1- عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله ادع على المشركين! قال: ((إني لم أبعث لعاناً, وإنما بعثت رحمة))( ).
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل أهل مكة رسول الله أن يجعل لهم الصفا ذهباً, وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا. قال الله عز وجل: إن شئت آتيناهم ما سألوا؛ فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم, وإن شئت نستأني بهم لعلنا ننتج منهم. فقال: لا، بل أستأني بهم . فأنزل الله هذه الآية: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]( ).
3- وفي رواية صحيحة عند البيهقي في "دلائل النبوة" (2/272): وإن شئت أن أفتح لهم باب التوبة والرحمة؟ فقال رسول الله: ((لا بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة)).
4- عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي حدثته: أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال؛ فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب؛ فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت؛ فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك, وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم! فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً))( ).
فوائد الأحاديث:
فيها بيان عظم الإسلام وسماحته، فقد رفض النبي الدعاء على المشركين ورجا من الله أن يهديهم, وأن يستأني بهم, وأن يفتح لهم باب التوبة.
5- عن مسروق قال: قال عبد الله : إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصوا على النبي دعا عليهم بسنين كسني يوسف ؛ فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد؛ فأنزل الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11]. قال: فأتي رسول الله فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت. قال: لمضر؟ إنك لجريء. فاستسقى فسقوا. فنزلت: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ[الدخان:15]. فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية؛ فأنزل الله عز وجل: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]. قال يعني يوم بدر( ).
فوائد الحديث:
في الحديث دليل على سماحة الإسلام ورأفته؛ فمع ما صنعه المشركون برسول الله وبأصحابه؛ فهو يدعو لهم بالرزق والمعافاه.
6- عن أبي هريرة قال: بعث النبي خيلاً قبل نجد؛ فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد؛ فخرج إليه النبي فقال: ((ما عندك يا ثمامة))؟. فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم, وإن تنعم تنعم على شاكر, وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد فقال: ((ما عندك يا ثمامة))؟. فقال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد.فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك. فقال: ((أطلقوا ثمامة)). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي, والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب دين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي, وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشره رسول الله وأمره أن يعتمر؛ فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله , ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي ( ).
7- زاد ابن هشام في "السيرة" بلاغاً (6/51): ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً؛ فكتبوا إلى رسول الله إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قطعت أرحامنا؛ فكتب رسول الله إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل( ).
قال ابن حجر: وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في المسجد والمن على الآسير الكافر, وتعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حباً في ساعة واحدة لما أسداه النبي إليه من العفو والمن بغير مقابل، وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب، وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير، اهـ. قلت: ومن فوائده أيضاً أنه دل على جواز تصدير الطعام إلى المشركين, وإن كانوا أهل حرب.
8- عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم)). قالوا: يا رسول الله كلنا يرحم قال: ((ليس برحمة أحدكم صاحبه يرحم الناس كافة))( ).
فوائد الحديث:
أن النبي ندب إلى رحمة الناس كافة فيدخل فيهم المسلم والكافر والصغير والكبير والذكر والأنثى.
الإسلام دين هداية
حرص الإسلام على هداية الناس لإخراجهم من الضلالة إلى الهدى, وإنقاذهم من النار. ولذلك قال الله مرغباً أهل الكتاب بالإسلام: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:65-66].
فقد جاء الإسلام ليهدي الضالين ليتمكنوا بحججه وبيناته من التفريق بين الحق والباطل، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ... [البقرة:185]. وقال تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [الإسراء:9].
وهو امتداد للهدى الذي منحه الله تعالى للبشرية من يوم خلق أصلها آدم ، وجعله معيارا يفرق به بين المهتدين والضالين، كما قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39].
ومن الأحاديث التي تدل على حرص الإسلام على هداية الناس جميعاً وترغيبهم فيه:
9- عن أبي هريرة : قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي فقالوا: يا رسول الله إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليها. فقيل: هلكت دوس. قال : اللهم اهد دوساً وأت بهم( ).
فوائد الحديث: جواز الدعاء للمشركين بالهداية , وقد فهم من ذلك الإمام البخاري وعليه فقد بوب باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم .
وقال الكرماني ( ): هم طلبوا الدعاء عليهم ورسول الله دعا لهم, وذلك من كمال خلقه العظيم, ورحمته على العالمين( ).
وبوب البخاري في "صحيحه": باب دعوة اليهود والنصارى وعلى مايقاتلون عليه وما كتب النبي إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال.
وبوب كذلك باب دعاء النبي إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وقوله تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ.. إلى آخر الآية/آل عمران (79).
10- ثم ذكر عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخبره: أن رسول الله كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي ,وأمره رسول الله أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر, وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكراً لما أبلاه الله؛ فلما جاء قيصر كتاب رسول الله قال حين قرأه: التمسوا لي ها هنا أحدا من قومه لأسألهم عن رسول الله ... الحديث( ).
وقد أخرج البخاري الحديث مطولاً:
11- عن عبد الله بن عباس: أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش, وكانوا تجاراً بالشأم في المدة التي كان رسول الله ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسباً. فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه؛ فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل؛ فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال : فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيء واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب؛ فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا. قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل, وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون, وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؛ فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف؛ فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم حتى أخلص إليـه لتجشمت لقاءه, ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيـه:
((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان ابن الناطور صاحب إيلياء، وهرقل أسقفاً على نصارى الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.
قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله فلما استخبره هرقل قال: أذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يروم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت؛ فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي. وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه. فكان ذلك آخر شأن هرقل( ).
قال النووي( ): في هذا الكتاب جمل من القواعد وأنواع من الفوائد منها: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم, وهذا الدعاء واجب والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام, وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب هذا مذهبنا, وفيه خلاف للسلف.
ومنها: التوقي في المكاتبة واستعمال الورع فيها فلا يفرط ولا يفرط, ولهذا قال النبي إلى هرقل عظيم الروم؛ فلم يقل ملك الروم لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام, ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله أو ولاه من أذن له رسول الله بشرط, وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة ولم يقل إلى هرقل فقط بل أتى بنوع من الملاطفة فقال عظيم الروم، أي الذي يعظمونه ويقدمونه وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام فقال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]. وقال تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، وغير ذلك( ).
قلت: وفيه جواز مخاطبة أهل الشرك بلفظ فيه تعظيم وتبجيل لترغيبه بالإسلام كما قال النبي عظيم الروم, وفيه إرسال السفراء والدعاة لنشر دين الإسلام.
وفيه أيضا شهادة غير المسلمين بفضائل هذا الدين ومحاسنه كما قال أبو سفيان وكان يومئذ مشركاً لما ذكر ما جاء به النبي : اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيء واتركوا ما يقول آباؤكم, ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
12- عن أنس أن نبي الله كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى, وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي ( ).
قال النووي: وفي هذا الحديث جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام( ).
13- وأخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن قتادة قال: سمعت أنسا يقول: لما أراد النبي أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا أن يكون مختوماً؛ فاتخذ خاتماً من فضة؛ فكأني أنظر إلى بياضه في يده ونقش فيه محمد رسول الله( ).
فوائد الحديث: فيه الأخذ بما تعارف عليه غير المسلمين في كتاباتهم ومراسيمهم.
14- عن أبي هريرة قال: بينا نحن في المسجد خرج رسول الله فقال: ((انطلقوا إلى يهود)). فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس، فقام النبي فناداهم فقال: ((يا معشر يهود أسلموا تسلموا)). فقالوا: بلغت يا أبا القاسم. قال: فقال لهم رسول الله : ((ذلك أريد أسلموا تسلموا)). فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله : ((ذلك أريد))( ).
15- عن أبي هريرة قال: قام رسول الله حين أنزل الله عز وجل: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ. قال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا بني مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً, ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً, ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً( ).
16- عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل واستكتمني اسمه عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قال رسول الله : عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره؛ فصمت فجاءني جبريل فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار. قال: فدعاني فقال: يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين؛ فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام, وأعد لنا عسل ولبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب ففعلت؛ فاجتمعوا له يومئذ وهم أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون؛ فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب الكافر الخبيث فقدمت إليهم تلك الجفنة؛ فأخذ رسول الله منها حذية فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها, وقال: كلوا بسم الله فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها، ثم قال رسول الله : اسقهم يا علي. فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا منه جميعاً, وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله؛ فلما أراد رسول الله أن يكلمهم بدره أبو لهب لعنه الله فقال: لهدّما - كلمة تعجب - سحركم صاحبكم فتفرقوا, ولم يكلمهم رسول الله ؛ فلما كان من الغد قال رسول الله : يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب؛ فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم. ففعلت ثم جمعتهم له فصنع رسول الله كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا, وأيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها، ثم قال رسول الله : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل من ما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة( ).
فوائد الحديثين:
حرص النبي على دعوة قومه, وفيه أيضاً تلطف النبي في دعوة قومه والإحسان إليهم.
17- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله قال: ((اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب)). قال: وكان أحبهما إليه عمر( ).
فوائد الحديث: فيه جواز الدعاء للمشركين بالهداية.
18- عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال: نظر رسول الله قبل اليمن فقال: اللهم أقبل بقلوبهم ثم نظر قبل الشام فقال: اللهم أقبل بقلوبهم، ثم نظر قبل العراق فقال: اللهم أقبل بقلوبهم, وبارك لنا في صاعنا ومدنا( ).
19- عن جابر قال: قالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم! قال: ((اللهم اهد ثقيفا))( ).
فوائد الحديث: فيه دليل على سماحة الإسلام فقد رفض النبي الدعاء على المشركين, وفيه أيضاً جواز الدعاء للمشركين بالهداية.
20- عن سهل بن سعد قال: قال النبي يوم خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)). فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى؛ فغدوا كلهم يرجونه فقال: ((أين علي))؟. فقيل: يشتكي عينيه فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام, وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله رجلاً بك خير لك من أن يكون لك حمر النعم))( ).
قال ابن حجر في بيان فوائد الحديث: يؤخذ منه أن تألف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله( ).
21- عن أنس أن النبي كتب إلى بكر بن وائل: ((من محمد رسول الله إلى بكر بن وائل أن أسلموا تسلموا)) قال: فما قرأه إلا رجل منهم من بني ضبيعة فهم يسمون بني الكاتب( ).
22- عن أبي بردة أنه سمع أباه عن النبي قال: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين الرجل تكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها ويؤدبها فيحسن أدبها ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران, ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمناً ثم آمن بالنبي فله أجران, والعبد الذي يؤدي حق الله وينصح لسيده))( ).
فوائد الحديث: فيه دليل على حرص الإسلام على هداية الناس وإنقاذهم من الضلالة إلى النور، وترغيب أهل الكتاب في الإسلام ببيان مضاعفة الأجر في إسلامهم.
23- وعن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله فقرأ عليه القرآن؛ فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه. فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً. قال:لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له. قال: وماذا أقول؛ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ولا بأشعار الجن, والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا, والله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: قف عني حتى أفكر فيه؛ فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره؛ فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا الآيات( ).
قال ابن كثير: وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلاً، وفيه أنه قرأ عليه: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]( ).
فوائد الحديث:
فيه التلطف في دعوة الآخرين وبيان محاسن دين الإسلام، فقد قرأ النبي قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ. وفيه أيضا شهادة المشرك على محاسن الإسلام كما شهد بذلك الوليد بن المغيرة.
24- وعن الضحاك بن النعمان بن سعد أن مسروق بن وائل قدم على رسول الله المدينة بالعقيق؛ فأسلم وحسن إسلامه, وقال: يا رسول الله إني أحب أن تبعث إلى قومي تدعوهم إلى الإسلام, وأن تكتب لي كتاباً إلى قومي عسى الله أن يهديهم. فقال لمعاوية: اكتب له فكتب له: بسم الله الرحمن الرحيم .. إلى الأقيال من حضرموت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقة( ).
فوائد الحديث: حرص الإسلام على هداية غيرالمسلمين وإنقاذهم من الضلالة إلى الهدى.
25- عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية بن المغيرة، قال رسول الله لأبي طالب: ((يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله)). فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؛ فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب, وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله : ((أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)). فأنزل الله تعالى فيه: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ .. الآية( ).
26- عن معاذ بن جبل أن النبي قال: ((يا معاذ لأن يهدي الله على يديك رجلاً من أهل الشرك خير لك من أن يكون لك حمر النعم))( ).
27- وعن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله : ((من أسلم على يديه رجل وجبت له الجنة))( ).
28- عن عبد الرحمن بن عائذ قال: كان النبي إذا بعث بعثاً قال: ((تألفوا الناس وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم فما على الأرض من أهل بيت مدر ولا وبر إلا تأتوني بهم مسلمين أحب إلى من أن تقتلوا رجالهم وتأتوني بنسائهم))( ).
فوائد الحديث: فيه بيان حرص الإسلام على تأليف قلوب غير المسلمين, وأن الله أرسل محمداً لهداية الناس, وأن القتل ليس مقصودا لذاته.
29- قال البيهقي في "الدلائل" (2/308): باب ما جاء في كتاب النبي الى النجاشي، ثم روى عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن ابن إسحاق قال: هذا كتاب من رسول الله إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة: سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولداً, وأن محمداً عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله؛ فإني أنا رسوله فأسلم تسلم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك.
هذا حديث مرسل.
30- عن الزهري عن عبد الله بن عبد القاريء أن رسول الله بعث حاطب بن أبي بلتعه إلى المقوقس صاحب الإسكندرية؛ فمضى بكتاب رسول الله إليه فقبل الكتاب وأكرم حاطباً وأحسن نزله وسرحه إلى النبي , وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها وجاريتين إحدهما أم ابراهيم وأما الأخرى فوهبها رسول الله لمحمد بن قيس العبدي( ).
31- ثم روي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال: بعثني رسول الله إلى المقوقس ملك الإسكندرية قال: فجئته بكتاب رسول الله فأنزلني في منزله وأقمت عنده، ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته وقال: إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ قلت: بل هو رسول الله . قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال: فقلت: عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذوه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله الى السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك الى محمد وأرسل معك ببذرقة يبذرقونك إلى مأمنك.قال: فأهدى الى رسول الله ثلاث جوار منهم أم إبراهيم ابن رسول الله , وواحدة وهبها رسول الله لحسان بن ثابت الأنصاري, وأرسل إليه بطرف من طرفهم( ).
فوائد الحديث: فيه دعوة الغير إلى الإسلام والتلطف في الدعوة, وقبول هدية المشرك.
32- قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار قال: وكان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريشاً؛ فخلا يوماً برسول الله في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله : ((يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟)). قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك. فقال له رسول الله : ((أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟)). قال: نعم. قال: ((فقم حتى أصارعك)). قال: فقام ركانة إليه فصارعه؛ فلما بطش به رسول الله أضجعه لا يملك من نفسه شيئاً ثم قال: عد يا محمد. فعاد فصرعه فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب أتصرعني! قال: ((وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري)). قال: وما هو؟ قال: ((أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني)). قال: فادعها. فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله فقال لها: ((ارجعي إلى مكانك)). فرجعت إلى مكانها قال: فذهب ركانة الى قومه فقال: يا بني عبد مناف ساحروا صاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى, والذي صنع( ).
33- وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد ابن ركانة عن أبيه: أن ركانة صارع النبي فصرعه النبي ثم قال الترمذي: غريب ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة( ).
34- قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر, وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر على بئر يقال له بئر مرق فجلسا في الحائط, واجتمع إليهما رجال ممن أسلم وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه؛ فلما سمعا به قال سعد لأسيد: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارينا؛ فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً. قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما ؛ فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما متشتماً فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه.
قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته, وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصفت. قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام, وقرأ عليه القرآن فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله. ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكمالم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن؛ سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم؛ فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً, وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه, وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك. قال: فقام سعد بن معاذ مغضباً مبادراً مخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً ثم خرج إليهما سعد؛ فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتماً ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني أتغشانا في دارنا بما نكره. قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمراً رغبت فيه قبلته, وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن. وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين. قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير فلما رآه قومه مقبلاً قالوا :نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة؟ قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة, ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون( ).
فوائد الحديث: أن اللين في دعوة الآخرين سبب عظيم لهداية الناس, وفيه أيضاً حسن المعاملة مع المشرك والتلطف به.
35- عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((الناس معادن في الخير والشر خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))( ).
فوائد الحديث: ترغيب أهل الشرف من غير المسلمين بالإسلام.
قال النووي رحمه الله: ومعناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية