[b]الثقافة العلمية مفتاح التقنية
د. خضر محمد الشيباني
المصدر مجلة العلوم والتقنية العدد 55
شهد أوائل القرن الثامن عشر الميلادي بداية الحركة العلمية في أوربا وإرساء جذورها عبر نجاحها الباهر في اكتشاف قوانين الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان في مختلف المجالات ، ولكن تأثير تلك الحركة لم يكن فقط على الصعيد المادي في تنمية الاقتصاد وتطوير الإنتاج أو شرح العديد من المعضلات والظواهر الطبيعية . ولكنها تعدت ذلك وامتدت بالضرورة لتفعل فعلها سلباً وإيجاباً على الصعيدين الاجتماعي والفكري ولتبدل رؤى كثيرة ومسلمات شتى ، ولتؤثر على أنماط الحياة المختلفة والتفاعلات الإنسانية المتعددة وليس ذلك بالأمر المستغرب ، فالحركة العلمية في المقام الأول نشاط إنساني يتولاه ويقوده بشر معرضون للخطأ والصواب ومن المحتم عليهم أن يتفاعلوا مع المعطيات الجارية على الساحة الحياتية بمختلف امتداداتها وتفرعاتها .
وقد فرضت الحركة العلمية وجودها في المجتمعات الغربية بطريقة بطيئة ونمت نمواً تدريجياً استمدته من واقع بيئتها وتركيبتها الداخلية ، بسبب أن هذه المجتمعات لم تتعرض لهجمة شرسة على شكل موجة عارمة من العلوم والمبتكرات منطلقة من الشرق أو الغرب ، ولم تحاصرها أحدث التقنيات على شكل طوفان هائج تخدمه مختلف وسائل الاتصال والمواصلات وبالرغم من ذلك النمو المتدرج في الإمكانات والفاعلية إلا ان ردود الفعل بين النخب الفكرية لهذا المستجد الفكري تباينت فكانت هناك مواقف حذرة ، وأخرى ترى فيها عملاً يدوياً مهنياً لا يليق بالنخب الأرستقراطية وأبناء العائلات المحترمة .
وبارلغم من صعوبات جمة اكتنفت مسيرة ( الحركة العلمية ) في الغرب إلا أنها استطاعت أن ترسخ جذورها في المجتمع بسبب إبداعات المنهج العلمي المتتالية في تطوير وسائل الإنتاج ، وتقديم الحلول للمشكلات الحياتية والعلمية والاقتصادية وشرح العديد من الظواهر الطبيعية التي استعصى فهمها على البشر منذ بدء الخليقة ، لقد كانت متانة الحركة العلمية تستند إلى قدرة المنهج العلمي على طرح النظرية المدعومة بالتجربة والمعتمدة على المنطق الرياضي والمفسرة لكثير من الوقائع والظواهر المألوفة ، وفي الوقت نفسه المتنبئة بنتائج أخرى غير معروفة فما تمر فترة من الزمن طالت أم قصرت حتى تتأكد تلك النتائج وتتحقق لتدعيم النظرية وترسخ القوانين وعلى الجانب النفعي فتحت هذه الحركة العلمية آفاقاً واسعة على صعيد التطبيقات وتطوير وسائل الإنتاج والرفاهية .
وفي الوقت الذي انطلقت فيه مسيرة العلوم والتقنية من إنجاز إلى إنجاز لتغير معالم الحياة في العالم الغربي ، وتبدل أنماط الإنتاج وتقلب المفاهيم الاقتصادية ، وتؤثر على مختلف العلوم والمفاهيم السائدة فإنها أخذت أيضاً تشق طريقاً خاصاً ومتميزاً يبتعد تدريجياً عن المناهج السائدة بين النخب الفكرية ، وتستعصي متابعته وفهمه على
الجمهور العام ، وذلك لأن مصطلحات المنهج العلمي الدقيقة ورموزه الرياضية ونظرياته المنضبطة وشروطه التجريبية كلها كانت مع توسعها وتراكمها تضيف أعباء على عملية التواصل مع النخب الفكرية وعامة الناس . ولقد استشعر رواد الحركة العلمية الأوائل في أوربا خطر هذه المشكلة فاهتم عدد كبير منهم بالتفاعل مع القيادات الفكرية والسياسية ، ومع الناس بشكل عام في محاولات مستمرة لتبسيط المفاهيم والأفكار وتوضيح المعطيات التقنية وإبراز المعاني والدلالات المرتبطة بالجهود والنتائج العلمية وكان من أبرز هؤلاء في بداية القرن التاسع عشر الميلادي الفيزيائي البريطاني مايكل فاراداي الذي أدى اكتشافه لظاهرة الحث الكهرومغناطيسي إلى اختراع المولد الكهربائي ففتح بذلك باب استخدامات وتحويلات الطاقة على مصراعيه ، لقد كان فاراداي حريصاُ على إلقاء المحاضرات العامة وتبسيط أعماله العلمية ، واشتهر بمهارته في الحوار والتشويق والإيضاح وكان مدركاً منذ ذلك الوقت المبكر في تطور الحركة العلمية لأهمية تعليم العلوم للجميع على أوسع نطاق ممكن ، لقد اصبح فاراداي المتحدث باسم الحركة العلمية في عصره والمروج لها إذ كانت محاضراته العامة ملتقى شرائح متنوعة من المجتمع البريطاني ولذا فقد عمدت الجمعية الملكية البريطانية مؤخراً إلى تأسيس جائزة فاراداي لتمنح الأوائل الذي يقدمون إسهامات بارزة في مجال التوعية العلمية للجمهور ، ومن أطرف ما يحكى عن فاراداي قصتان شهيرتان ففي نهاية إحدى محاضراته العامة عن ظاهرة الحث الكهرومغناطيسي اقتربت منه سيدة عجوز وسألته باستفزاز : وما هي فائدة الحث الكهرومغناطيسي ؟ وأجابها فاراداي بسؤال آخر " ولكن يا سيدتي .. ما هي فائدة طفل حديث الولادة ؟ أما القصة الأخرى فقد كانت في محاضرة حضرها رئيس وزراء بريطانيا آنذاك الذي سأل فاراداي : " ولكن ما هي الفائدة من الكهرباء " وأجابه فاراداي في لفتة ذكية : " إنك يا سيدي سوف تجمع الضرائب من وراء الكهرباء يوماً ما " .
وقد اهتم أيضاً علماء مرموقون في القرن العشرين بعملية التواصل مع الجمعهور عبر تأليف الكتب والنشرات المبسطة وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات العامة ، وكان من أبرزهم ألبرت أينشتاين ، وإروين شرودنجر ، وريتشارد فينمان ، وستيفن هوكنجز الذي صدر له قبل عدة سنوات كتاب " تاريخ موجز للزمن " ترجم إلى عدة لغات منها اللغة العربية واحتل لفترة طويلة موقعاً متقدماً على قائمة أفضل الكتب مبيعاً في الغرب .
إشكالية الثقافتين :
استطاع المفكر البريطاني تشارلز سنو أن يشخص المشكلة التي كانت تتفاقم في الغرب نتيجة للخطى السريعة والقفزات الباهرة التي كانت تتحقق في ظل العلوم والتقنية ففي محاضرته الشهيرة التي ألقاها في جامعة كامبردج ببريطانيا عام 1959م طرح سنو راياً أصبح من أدبيات الفكر الغربي المعاصر ، وهو ما أطلق عليه
اسم إشكالية الثقافتين ، لقد اعتبر سنو أن المجتمعات الغربية ونظامها التعليمي وحياتها الفكرية تعاني من شرخ بين ثقافتين الآداب والعلوم الإنسانية من جهة والعلوم الطبية من جهة أخرى وأكد سنو أن هذه الظاهرة تمثل خطراً كبيراً يهدد رفاهية الجتمع الغربي ، ومن مرئيات سنو في أطروحته هذه : ( أن بين المفكرين في مجالات العلوم الإنسانية وبين علماء الطبيعة شكوكاً عميقة متبادلة وسوء فهم ، مما يؤدي إلى نتائج وخيمة على مستقبل تطبيق التكنولوجيا ) .وقد أثار أطروحة سنو جدلاً كبيراً في العالم الغربي ، وما زالت آثارها تتفاعل على مختلف الأصعدة وبالرغم من أن سنو كان معنياً في أطروحته في المقام الأول بالنخب الفكرية وانعدام التواصل بين أهل التخصصات الإنسانية وأصحاب التخصصات العلمية إلا أنها في تفاعلاتها وامتداداته أكدت أن ضرورة إقامة الجسور بين الحركة العلمية وبين الجمهور بشكل عام ، ومن هذا المنطلق وجدت مقولة العلم للجميع حضوراً مميزاً في المجتمعات الغربية وأصبحت شعاراً قومياً وهاماً وأولوية بارزة في تخطيط الدول المتقدمة ، لأنها أصبحت تدرك أهمية توفر قاعدة واسعة من الجمهور تمد الحركة العلمية بالزخم والدعم ، وتزودها بالكفاءات والمواهب والقدرات ، ومن المهم في هذا الخصوص ذكر الدراسة التي أجراها البروفسور جون ميللر في عام 1970م لقياس مستوى الثقافة العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية حيث وجد أن عدداً لا يزيد عن 7% من الأمريكان يمكن تصنيفهم على أنهم مثقفون علمياً ، وذلك بمقاييس مرنة جداً ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : إذا كانت نسبة المثقفين علمياً هي بتلك الضآلة في مجتمع علمي متقدم مثل الولايات المتحدة الأمريكية فكيف يكون الحال في الدول النامية ذات الصلة الحديثة بالحركة العلمية ومعطياتها المختلفة ؟ [/b]