الفلسفة الإسلامية. عرف المسلمون الفلسفة من
خلال اليونانيين. فقد ذكر الخوارزمي (ت 387هـ، 997م) في مفاتيح العلوم "أن
الفلسفة مشتقة من كلمة يونانية وهي فيلاسوفيا وتفسيرها محبة الحكمة، فلما
عُرّبت قيل: فيلسوف، ثم اشتقت الفلسفة منه، ومعنى الفلسفة علم حقائق
الأشياء والعمل بما هو أصلح. وتنقسم إلى قسمين أحدهما الجزء النظري والآخر
الجزء العملي. ومنهم من جعل المنطق قسمًا ثالثًا غير هذين، ومنهم من جعله
جزءًا من أجزاء العلم النظري، ومنهم من جعله آلة للفلسفة، ومنهم من جعله
جزءًا منها وآلة لها. هذه هي الفلسفة، فما الفلسفة الإسلامية إذن؟ يرى بعض
الفلاسفة هي مجموعة الأفكار التي ارتآها الكندي والفارابي وابن سينا ومن
سار على نهجهم في الله والعالم والنفس الإنسانية،.ويرى ابن رشد (ت 595هـ،
1198م) في فصل المقال ¸أن النظر في كتب القدماء ـ يقصد بالقدماء هنا
فلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو ـ واجب بالشرع، إن كان مغزاهم في كتبهم
ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان
أهلاً للنظر فيها ـ وهو الذي جمع بين أمرين: أحدهما: ذكاء الفطرة،
والثاني: العدالة الشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية ـ فقد صد الناس عن
الباب الذي دعا الشرع منه الناس، إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدّي
إلى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى·. فالفلسفة
عند ابن رشد تفتح باب العلم بالله ومعرفته حق المعرفة.
ويرى ابن خلدون (ت 808هـ، 1406م) في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي
استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرِّفها قائلاً: ¸بأن
قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء
الحسي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة
العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع
فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان
اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوَّموا على إصابة الغرض
منه ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل
وسموه بالمنطق.· ويحذّر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل
الاطلاع على الشرعيات من التفسير والفقه، فيقول: ¸وليكن نظر من ينظر فيها
بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ
عليها وهو خِلْو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها·.
ولعل ابن خلدون وابن رشد اتفقا على أن البحث في هذا العلم يستوجب الإلمام
بعلوم الشرع حتى لا يضل العقل ويتوه في مجاهل الفكر المجرد لأن الشرع يرد
العقل إلى البسيط لا إلى المعقد وإلى التجريب لا إلى التجريد. من هنا كانت
نصيحة هؤلاء العلماء إلى دارسي الفلسفة أن يعرفوا الشرع والنقل قبل أن
يُمعنوا في التجريد العقلي.
ويذهب الكندي (ت نحو 260هـ، 873م) إلى أن الفلسفة هي علم الحق الأول الذي
هو علة كل حق، ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشرف هو المرء المحيط
بهذا العلم الأشرف لأن علم العلة في نظره أشرف من علم المعلول، والعلم
التام هو علم العلة. ويرى الفارابي (ت 339هـ، 950م) أن الفلسفة هي العلم
بالموجودات بما هي موجودة ويقسمها إلى حكمة إلهية وطبيعية ورياضية
ومنطقية. ويعطيها الشيخ الرئيس ابن سينا (ت428هـ، 1037م) طابعًا نفسيًا
فيقول: الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق
النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية. ويقسم الحكمة كذلك إلى نظرية
يتعلمها الإنسان، ولا يعمل بها، وحكمة عملية مدنية ومنزلية وأخلاقية.
وحول هذه المفاهيم، كان يتناول فلاسفة الإسلام الفلسفة مقتفين أثر
الأساتذة القدماء من حكماء اليونان. فكانوا تارة يقتربون من أساتذة
اليونان وتارة يبتعدون عنهم، ولم ينتهجوا منهجًا مستقلاً في التفلسف ولم
يخالفوا رأي القدماء إلا في المسائل التي تخرجهم من ملة الإسلام، وظلوا
أساتذة في هذا العلم في ظل أساتذة الفلسفة السابقين.
متى نشأت الفلسفة الإسلامية وكيف
إذا كانت كلمة فلسفة يونانية الأصل وكان المسلمون قد نظروا في فلسفة
اليونان، فكيف وصلت الفلسفة إلى المسلمين مع فارق المسافة والثقافة
واللغة؟ وهل كان علم الحق الأول عند المسلمين مستخرجًا من الكتاب والسنة؟
أو أن هناك مؤثرات أخرى جعلت من اتجه من المسلمين يتجه صوب الفلسفة؟
الشاهد التاريخي يقول إن القرآن والسنة لم يدفعا المسلمين إلى التفلسف ـ
إلا من باب التأمُّل الذي أمروا به ـ بل كانت هناك مؤثرات خارجية وفدت إلى
ديار المسلمين إثر عصور الترجمة، وحاول العلماء الذين خاضوا في هذه العلوم
الجديدة الوافدة التوفيق بين رصيدهم من العلوم النقلية الشرعية وبين
العلوم العقلية الفلسفية المنقولة باللغة السريانية أو العبرانية عن اللغة
اليونانية. وقد أثْرت حركة الترجمة الحياة العلمية عند المسلمين خاصة في
مجال العلوم الطبيعية. لكن على الرغم من ذلك فإن هناك بعض الملاحظات التي
أبداها علماء المسلمين على حركة الترجمة، منها أن المترجمين لم يكونوا من
أهل الاختصاص في العلوم التي نقلوها وحدث ما كان يخشاه علماء المسلمين من
التصحيف والتحريف في اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها، وكان ذلك
أشد وضوحًا فيما نقلوه من الفلسفة اليونانية. إن المترجمين نقلوا ـ مثلاً
ـ كتاب الربوبية لأفلوطين ونسبوه خطأً لأرسطو. وغلب على ظن كثير من
متفلسفة الإسلام أن الربوبية حقيقة لأرسطو ووقعوا في مغالطات الذين كانوا
يقولون بالتوفيق بين الفلسفة والدين، والعقل والنقل. ومن ناحية أخرى، فإن
بعض المترجمين كانوا قومًا أهل دين: منهم النساطرة النصرانيون الذين كانوا
ينشرون النصرانية في كل محفل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ومنهم اليهود
الذين كانوا يرون في الإسلام مزاحمًا ومنافسًا فكريًا فأرادوا أن يستبعدوه
ليخلو لهم الجو. هذا فيما يتعلق بالعلوم النظرية، أما العلوم التطبيقية،
فقد برع فيها المسلمون واستفادوا أيما فائدة من الترجمات والشروح على
الترجمات التي وصلت إليهم من العلوم اليونانية عن طريق السريانية. ظهرت
هذه الترجمات بعد الفتوحات الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي ولم يكن
دور العصر الأموي كبيرًا في الترجمة إلا أن العصر العباسي كان عصر الترجمة
الزاهر.
حركة الترجمة في العصر الأموي. لم يؤدِّ الأمويون دورًا كبيرًا في حركة
الترجمة، بل كان دورهم ثانويًا إبان الفتوحات الإسلامية لأنهم كانوا
حريصين على حماية الثغور وفتح البلدان وتأمين الدولة الجديدة، ما عدا
الدور الذي أدَّاه خالد بن يزيد الذي ترك الإمارة والحكم وكرّس جهده للطب
وترجمة كتب الكيمياء والطب إلى العربية. وظهر في هذا العصر الطبيب ما
سرجويه، وكان ينقل من السريانية إلى العربية. ودارت في هذا العصر مناقشات
وجدال حول الإمامة والجبر والاختيار كانت إرهاصًا بظهور الفرق الإسلامية
فيما بعد.
حركة الترجمة في العصر العباسي بدأت الترجمة في هذا العصر في خلافة
المنصور ونشطت حركة الترجمة من اليونانية إلى السريانية وظهرت أسماء بعض
المترجمين في هذا العصر أمثال سرجيوس الرأس عيني أو الرسعني الذي ترجم
آثار جالينوس في الطب والأخلاق وآثار أرسطو المنطقية إلى السريانية،
وعبدالله بن المقفع الذي ترجم من الفارسية إلى العربية حكايات كليلة
ودمنة، وقيل إنه ترجم بعض كتب أرسطو في المنطق. وازدهرت حركة الترجمة في
عصر المأمون إذ إنه أسس في بغداد مدرسة الحكمة أو بيت الحكمة سنة 217هـ،
832م وائتمن يحيى بن ماسويه عليه، وخلف يحيى تلميذه الشهير حنين بن إسحق
في الفترة الواقعة بين سنة 194-260هـ، 809-873م، وكان حنين أشهر مترجم
للمؤلفات اليونانية إلى السريانية والعربية دون منازع، وكذلك كان ابنه
إسحاق بن حنين وابن أخيه حبيش بن الحسن. ومن الأسماء التي لمعت في فن
الترجمة يحيى بن البطريق (مطلع القرن التاسع الميلادي) وعبد المسيح بن
عبدالله بن ناعمة الحمصي (النصف الأول من القرن التاسع)، وهو الذي كان
مساعدًا للفيلسوف الكندي وقد ترجم لأرسطو، وإليه يرجع الفضل في ترجمة كتاب
الربوبية (إثولوجيا) المنسوب إلى أرسطو وكان قد وضعه أفلوطين الإسكندري.
وكذلك لمع اسم قسطا بن لوقا البعلبكي، وقد كان طبيبًا وفيلسوفًا
وفيزيائيًا معروفًا ترجم شروح الإسكندر الأفروديسي ويوحنا فيلويون على
كتاب الطبيعة لأرسطو. وله شروح جزئية للكون والفساد لأرسطو، وله رسالة في
الفرق بين الروح والعقل، وله بحوث في الشفاء شبيهة بعلم النفس المعاصر.
وفي القرن العاشر الميلادي، ظهرت أسماء مثل أبي بشر متى القنائي (ت
329هـ،940م) والفيلسوف النصراني يحيى بن عدي صاحب تهذيب الأخلاق (ت 364هـ،
974م) وتلميذه أبي الخير بن الخمار (ولد 331هـ، 942م). وقد ظهرت في هذا
العصر مدرسة الرَّهَا وكانت تضم صابئة حران الذين كانوا يدينون بالمعتقدات
الكلدانية القديمة ويهتمون بالدراسات الرياضية والفلكية والروحية بالإضافة
إلى الأفلاطونية الفيثاغورثية المحدثة. ومن أشهر المترجمين في مدرسة الرها
ثابت بن قرة، وقد ترجم العديد من المؤلفات الرياضية والفلكية.
لماذا اشتغل المسلمون بالفلسفة. لم يهتم المسلمون بالآداب اليونانية لأنها
كانت وثنية في مبدئها ومنتهاها فلم يحفلوا بها كثيرًا. وكانت معرفتهم
بالفلسفة اليونانية عن طريق بلوتارك الذي نقل عن ديوجين اللايرتي،
وفرفوريوس، وجالينوس. ولذلك كانت معرفتهم بالفلسفة السابقة لسقراط مزيجًا
من الأساطير والخرافات التي نسبوها إلى فلاسفة اليــونان المتأخــرين في
مدرسة الإسكندرية.
وقد عرف المسلمون الفلاسفة الذين جاءوا قبل سقراط كأنبا دقليس الذي كانوا
يسمونه ابن دقليس، وديموقريطس وفيثاغورث، وكذلك عرفوا السوفسطائيين أمثال
بروتاغوراس وجورجياس وعرفوا سقراط عن طريق ما كتبه عنه إسكانوفان في
التعاليق وكتبوا عن سيرة سقراط وموته ودفاعه عن فكره حتى موته.
وكذلك عرفوا أفلاطون واعتبروه أقرب الفلاسفة إليهم لأنه تكلم عن الخلق
الإلهي وأثبت وجود الصانع وبرهن على وجود النفس وخلودها وكان تأثيره فيهم
كبيرًا. تأثر به الكندي والفارابي وابن سينا وكل التيار الإشراقي الصوفي
ومن دار في فلكهم. وتأثر هؤلاء أيضًا بأفلوطين صاحب الأفلاطونية المحدثة
والمذهب الإشراقي. وقد كان أرسطو مثار إعجاب فلاسفة الإسلام إذ إنهم، كما
كانوا يجلّون أفلاطون الإلهي، أصبحوا يقدرون أرسطو العقلي إعجابًا بعلمه
وعقله وإجلالاً لفلسفته. لكنهم وضعوا حول سيرته روايات وأساطير قصصية كانت
من عمل مدرسة الإسكندرية والسريان المتأخرين، ونُسبت إليه كتب كثيرة لم
تكن من تأليفه، نذكر منها على سبيل المثال، كتاب التفاحة وكتاب الربوبية
واشتغلوا بكتبه كثيرًا لا سيما كتب المنطق، وكذلك عرفوا كتبه في الأخلاق
والطبيعيات والسياسة. وقام فلاسفة الإسلام بمحاولة الجمع بين رأي الحكيمين
أفلاطون وأرسطو. وعندما توغل المسلمون في الفلسفة وفي شروح أرسطو ومنطقه
وأقيسته وأصبحوا أساتذة وطال باعهم في التفلسف، حصلت في القرن الثاني عشر
والثالث عشر الميلاديين حركة ترجمة عكسية من العربية إلى اللاتينية. وقد
أثرت هذه الترجمات على الفكر الأوروبي وأعادت إلى الأوروبيين التراث
اليوناني مزيدًا ومنقحًا ومشروحًا ومعلقًا عليه، ونشأت مدرسة أوروبية في
العصور الوسطى تُسمى بالرشدية لقيامها على آراء الفيلسوف المسلم ابن رشد
الذي كانوا يعرفونه بأفروس وعرفوا ابن سينا بأفيسينا، وكان كتاب القانون
في الطب لابن سينا يدرَّس في جامعات فرنسا إلى القرن الثالث عشر الميلادي
كما عرفته أيضًا قاعات أكسفورد إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي. وقد
كانت الفلسفة الإسلامية الجسر الذي نقل الفلسفة اليونانية إلى أوروبا.
تأثير الفلسفة في المتكلمين. كان المتكلمون يدافعون عن العقيدة ويقارعون
الخصوم الحجة بالحجة. وعندما شاع الاشتغال بالفلسفة والمنطق اليوناني،
خاضوا في مسائل المنطق للدفاع عن العقيدة، ومنهم من لم تعجبه أساليب
اليونان ففضل أساليب القرآن في الحجاج ومقارعة الخصوم، ومنهم من اشتغل
بالمنطق وقضاياه باعتباره أداة من أدوات المعرفة. وكانت لهم مآخذ على منطق
أرسطو وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ، 1328م) الذي قال إن منطق
أرسطو لا يحتاج إليه الذكي ولا يستفيد منه الغبي لأنه تحصيل حاصل، وذكر أن
المنطق يتأثر باللغة، وكذلك منطق اليونان قد تأثر باللغة اليونانية بكل ما
فيها من وثنيات، ولذلك يُخشى على من ليس لهم علم بذلك من معاطب الطريق.
نخلص من هذا إلى أن تأثير الفلسفة في المتكلمين وفي علماء المسلمين لم يكن
تأثير الأستاذ على التلميذ، كما تدّعي بعض الدوائر الاستشراقية، بل هو في
جملته تأثير عكسي، تأثير الذي يريد أن يعرف الشر لكي لا يقع فيه، وقد
عرفوا لهم الفضل وحفظوه فيما ليس فيه شر.
بعض قضايا الفلسفة الإسلامية
من المشكلات التي تعرَّض لها فلاسفة الإسلام بالجدال مشكلة إثبات وجود
الله ، وصفاته ووجود العالم أحادث هو أم قديم، ومشكلة النفس الإنسانية،
وهل هي موجودة وخالدة أم فانية؟ لقد تصدى الفلاسفة المسلمون لهذه المشكلات
ودخل بعضهم في بطون فلاسفة اليونان ولم يستطيعوا أن يخرجوا منها، وظل فكر
كثير منهم أسير التصورات اليونانية. ومن الذين تصدوا للدفاع عن الفلسفة
والخوض في مسائلها الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. وفيما يلي بعض
آرائهم في هذه المشكلات الفلسفية.
القضية الأولى ¸الله·. تناقش هذه القضية من خلال آراء الكندي والفارابي
وابن سينا وابن رشد. أما الكندي فيعرف بأنه فيلسوف العرب لأن جذوره تمتد
إلى أصل عربي قحطاني، كان أبوه من ملوك كندة بالعراق. انظر: الكندي، أبو
يوسف. عرف الكندي الاعتزال فكان من متكلمي المعتزلة وعرف الفلسفة عن طريق
الترجمة، وقيل كان يعرف اليونانية وترجم عن اليونانية، وكانت له علاقة
بابن ناعمة الحمصي. وقد كان له اطلاع واسع على الترجمات العربية للكتب
اليونانية وبخاصة فلسفة أرسطو كما أنه صحح بعض الترجمات وراجعها وألَّف
رسالة في الفلسفة الأولى، وهي في البحث عن الإلهيات، وهي عنده من أشرف
العلوم لأنها علم الحق. فالله عنده هو العلة الأولى، وهو الفاعل الأول
والمتمم لكل شيء ومؤيِّس الكل عن ليس، والأيْسُ هو الوجود وضده اللّيْس
وهو العدم، فالله هو موجد الكل من العدم. وقد تأثر الكندي في هذه الرسالة
بكتاب الربوبية (إيثولوجيا) المنسوب لأرسطو، وهو كتاب يبحث في الإلهيات
كتبه أفلوطين الإسكندري ونسبه فلاسفة الإسلام خطأ إلى أرسطو لأنهم لم
يعرفوا أنه مَنْحول على أرسطو. وفكرة الأيْس عن ليْس (خلق الوجود عن عدم)
فكرة أصيلة عند الكندي، وهي فكرة إسلامية تعني خلق العالم من عدم. والكندي
في هذه المسألة يخالف رأي أرسطو الذي يقول بقدم العالم، وهذه إحدى المسائل
التي جعلت الكندي مفكرًا أصيلاً في نظر بعض النقاد.
يقتفي الكندي هنا أثر أرسطو اليوناني ويقيم براهينه على وجود الله على نفس
النسق الأرسطي الذي يستند إلى الحركة والكثرة والنظام في إثبات وجود الله.
والبرهان الأول هو برهان الحدوث، فالشيء عنده لا يمكن أن يكون علة لذاته،
أي لا يمكن أن يكون موجودًا لذاته. وجرم العالم عنده متناه أي أن له بداية
في الزمن وما دام متناهيًا فهو موجود من العدم أي أنه أَيْس من ليْس، فهو
حادث ولابد له من محدث، ومحدثه هو الله لَيْس أن الله هو علة حدوثه.
ويوافق الكندي علماء الطبيعة المحدثين في أن العالم له بداية في الزمن ،
وهم يرجعون ذلك إلى ملايين السنين عندما كان الكون في حالة غازية سائلة
ملتهبة، أما الكندي فقد ذهب مذهبًا آخر عندما نظر إلى كتلة العالم فرأى
أنها إما أن تكون متناهية أو غير متناهية ووصل إلى أنها متناهية ومتميزة،
ومن ثم عرف أن الوجود المتناهي لابد أن تكون له بداية في الزمن.
أما البرهان الثاني الذي يتخذه على وجود الله، فهو برهان الكثرة، فقد رأى
الكندي أن الأشياء المحسوسة متكثرة بالأنواع ومتحدة بالأجناس، فالحيوان
واحد بالجنس كثير بالأنواع، حيث يضم الإنسان والحمار والحصان... إلخ،
فالاشتراك في الوحدة يرجع إلى علة أولى ما بعدها علة، هي علة اشتراكها في
الوحدة. وهذه العلة الأولى هي الله.
أما البرهان الثالث، فهو برهان التدبير وهو دليل الغائية في الوجود
المحسوس. فالعالم المحسوس لم يوجد عبثًا بل لابد له من مدبّر، ولا يمكن
معرفة المدبّر إلا بمعرفة تدبيره، وهو الكون المحسوس المنتظم. وهذا الدليل
اقتبسه الكندي من أرسطو.
يأتي بعد الكندي الفارابي وهو تركي الأصل من إقليم فاراب بتركيا وأمه
فارسية. توفي سنة 339هـ، 950م. لقّبه مؤرخو الفلسفة بالمعلم الثاني،
(لتأثره بأرسطو الذي لقّبه مؤرخو الفلسفة بالمعلم الأول)، وذلك لتأثره
كلية بفلسفة أرسطو. وقد عُرفت فلسفته بأنها فلسفة توفيقية يحاول فيها
الفارابي أن يوفق بين عقيدته الإسلامية وفلسفة اليونان. انظر: الفارابي،
أبو نصر.
أما دليله على وجود الله فهو دليل الوجوب والإمكان. يقسم الموجودات إلى
قسمين: ممكن الوجود وواجب الوجود. وواجب الوجود عنده هو الموجود الذي
وجوده من ذاته، فإذا فُرض عدم وجوده لكان ذلك مُحالاً. أما ممكن الوجود
فهو الذي وجوده من غيره، فإذا فُرض عدم وجوده لما كان ذلك محالاً. والوجود
الممكن يتعادل وجوده وعدمه، أي أن وجوده وعدمه سواء إلا إذا ترجح أحدهما
على الآخر. فإذا ترجح وجوده كان لابد له من مرجح يرجح وجوده على عدمه أي
لابد له من موجد ترجح عنده الوجود على العدم فأخرجه إلى الوجود. فلابد لكل
موجود ممكن الوجود من مرجّح لوجوده على عدمه، ولا يمكن أن تمضي سلسلة
المرجحات الممكنة الوجود إلى مالانهاية لأن هذا محال، فلابد إذن أن نصل
إلى مبدأ أول أو سبب أول هو علة وجود كل الممكنات في العالم وهو الذي رجح
وجود هذا العالم على عدمه وهو الله. وهو واجب الوجود بذاته ولا يحتاج إلى
غيره أبدًا. وقد رفض الفارابي دليل الحكماء الطبيعيين الذين يرون أنه لابد
من الاستدلال على وجود الله بآثاره لأن الصنعة تدل على الصانع، وهذا يعني
أنهم يصعدون من الفعل إلى الفاعل، ومن المخلوق إلى الخالق، لكنه يرى أنهم
يفكرون في الأفعال التي تصدر في العالم فلا يتجاوزون عالم الحوادث
المتناقضة، ولا يجدون تصورات شاملة للموجودات. أما الفارابي، فقد أراد أن
يصل إلى العلة الأولى الوحيدة، وهذه العلة الوحيدة هي واجب الوجود. ومعنى
الموجود الواجب يحمل في ذاته البرهان على أنه واحد لا شريك له، فلو وجد
موجودان كل منهما كامل الوجود وواجب الوجود لكانا متفقين من وجه ومتباينين
من وجه، وما به الاتفاق غير ما به التباين، فلا يكون كل منهما واحدًا
بالذات، فالموجود الذي له غاية الكمال يجب أن يكون واحدًا. فهو واحد
بالذات لا تركيب فيه ولَيْس له ليس ولا يمكن حده، لكن الإنسان يثبت للبارئ
أحسن الأسماء الدالة عليه وعلى منتهى كماله، وتأثر الفارابي هنا بفلسفة
أرسطو في المحرك الأول.
وعمومًا كان للفارابي الفضل في توطيد أركان الفلسفة في العالم الإسلامي؛
فقد اتخذت شكلها التي آلت إليه بعد وفاته إلى أن جاء عصر ابن رشد؛ حيث مزج
الفارابي بين الأفلاطونية والأفلوطينية من جهة والفلسفة الأرسطية المشائية
من ناحية ثانية، ومن ثم نجد ذلك التشابه التام فيما ذكره الفارابي عن
المدينة الجماعية في كتاب السياسة المدنية والديمقراطية التي وضعها
أفلاطون.
ولأن الفارابي لم يكن لديه تلاميذ مباشرون، فقد أثر فيمن أتي بعده من
الفلاسفة العرب والمسلمين، وكان على رأس هؤلاء الشيخ الرئيس ابن سينا الذي
اعتمد على الفارابي في فهم الفلسفة اليونانية، وبالتالي في وضع كثير من
الآراء والنظريات.
أما ابن سينا فقد عُرف عند مؤرخي الفلسفة بالشيخ الرئيس وذلك لاشتغاله
بالعلم والوزارة، ولد بأفشنة بالقرب من بخارى بفارس سنة 370هـ،980م، وحفظ
القرآن منذ نعومة أظفاره، وكان عنده شغف بالعلم ونهم لا ينقطع للاطلاع
والقراءة فاشتغل بالطب والفلسفة والكيمياء والفقه والرياضة والهندسة، وبرع
في كل ما درسه، وما جلس لأستاذ قط إلا صار أستاذًا لأستاذه. انظر: ابن
سينا. وقد تأثر بأفلاطون وأرسطو عن طريق شروح الفارابي، وأما فلسفته،
فكانت مزيجًا من الأفلاطونية والمشائية (فلسفة أرسطو).
ولإثبات وجود الله عند ابن سينا، فقد قسم الأدلة إلى قسمين: دليل عقلي
ودليل حسي؛ أما الدليل العقلي فهو دليل الإمكان الذي ذهب إليه الفارابي
حيث قسم الموجودات إلى واجب وممكن، فالواجب الوجود هو الذي متى فرض غير
موجود عرض عنه محال. والممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود لم يعرض
عنه محال، والواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا
ضرورة فيه بوجه، أي لافي وجوده ولا في عدمه.
وواجب الوجود إما أن يكون واجبًا بذاته وإما أن يكون بغيره. والبارئ عز
وجل هو الواجب لذاته لا لشيء آخر. أما واجب الوجود بغيره فهو واجب الوجود
لا بذاته؛ فالاحتراق مثلاً واجب الوجود لا بذاته ولكن عند التقاء القوة
المحرقة والمحترقة، ومن هنا يتشعب الوجود إلى ثلاثة أقسام. واجب الوجود
بذاته، وواجب الوجود بغيره، وممكن الوجود. وواجب الوجود هو العلة الأولى
ومبدأ الوجود المعلول على الإطلاق، لأنه لا توجد سوى علة واحدة مطلقة هي
واجب الوجود. والممكنات هي الموجودات الصادرة عنه التي تحتاج في وجودها
الممكن إلى علة هي واجب الوجود، وترتفع الأسباب كلها إليه لأنه غاية
الموجودات جميعًا وإليه ترجع الأسباب جميعًا. وكما ترى، فهذا الدليل هو
عين الدليل الذي ذكره الفارابي لإثبات وجود الله، وهو دليل عقلي لأنه
يستند إلى التأمل في مفهوم الواجب والممكن ومن ثم يصل عقليًا، عن طريق
الاستنباط، إلى ضرورة وجود الواجب الوجود. ويرى بعد ذلك أننا يجب أن لا
نستند في البرهان على الخالق إلى شيء من مخلوقاته لأننا نستطيع أن نصل إلى
الوجود الأول الواجب الوجود عقليًا ونعرف أن وجوده عين ما هيته أي أنه
وجود متحقق. وهو يختلف عن الدليل الأول في أن ابن سينا لا يستخدم المنطق
بل يصل إلى الدليل بالحدس المباشر. والحدس ضرب من ضروب المعرفة المباشرة
دون وسيط حسي، إذ إن ابن سينا هنا لم يستدل بالمخلوق على الخالق كما هو
الحال في الدليل الكوني، بل حدس فكرة الموجود الأول من فكرة الوجود فقط
ووصل إلى وحدانيته لأنه يشهد على ما بعده في الوجود.
يقول ابن سينا في الإشارات: ¸تأمل كيف لم يحتج برهاننا لثبوت الأول إلى
تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله، وإن كان ذلك
دليلاً عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود، فشهد
به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود،
وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الإلهي: ﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي
أنفسهم﴾ فصلت: 53 ، أقول: هذا حكم لقوم، ثم يقول: ﴿ أو لم يكف بربك أنه
على كل شيء شهيد﴾ فصلت: 53 ، أقول إن هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به
لا عليه". وابن سينا يعني بهذا أنه لم يستشهد بوجود المخلوق على وجود
الخالق بل فعل عكس ذلك فاستشهد بوجود الخالق على وجود المخلوق. ويسميه
الفلاسفة الدليل الوجودي.
يأتي بعد ابن سينا في هذه القضية العالم الأندلسي ابن رشد، الذي ولد
بقرطبة عام 520هـ، 1126م ويسمى ابن رشد الحفيد لأن أباه كان قاضيًا
وفقيهًا وكذلك جده لأبيه كان من أشهر فقهاء الأندلس، وقد كان هو فقيهًا
وطبيبًا وفيلسوفًا، وقد تأثر بفلسفة أرسطو حتى سُمي بالشارح الأكبر لفلسفة
أرسطو، وقد أثر في الفكر الفلسفي الغربي، وقامت مدرسة فلسفية غربية في
القرون الوسطى تُسمى بالرشدية وتتميز فلسفته بالتوفيق بين الفلسفة والدين.
انظر: ابن رشد .
خلال اليونانيين. فقد ذكر الخوارزمي (ت 387هـ، 997م) في مفاتيح العلوم "أن
الفلسفة مشتقة من كلمة يونانية وهي فيلاسوفيا وتفسيرها محبة الحكمة، فلما
عُرّبت قيل: فيلسوف، ثم اشتقت الفلسفة منه، ومعنى الفلسفة علم حقائق
الأشياء والعمل بما هو أصلح. وتنقسم إلى قسمين أحدهما الجزء النظري والآخر
الجزء العملي. ومنهم من جعل المنطق قسمًا ثالثًا غير هذين، ومنهم من جعله
جزءًا من أجزاء العلم النظري، ومنهم من جعله آلة للفلسفة، ومنهم من جعله
جزءًا منها وآلة لها. هذه هي الفلسفة، فما الفلسفة الإسلامية إذن؟ يرى بعض
الفلاسفة هي مجموعة الأفكار التي ارتآها الكندي والفارابي وابن سينا ومن
سار على نهجهم في الله والعالم والنفس الإنسانية،.ويرى ابن رشد (ت 595هـ،
1198م) في فصل المقال ¸أن النظر في كتب القدماء ـ يقصد بالقدماء هنا
فلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو ـ واجب بالشرع، إن كان مغزاهم في كتبهم
ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان
أهلاً للنظر فيها ـ وهو الذي جمع بين أمرين: أحدهما: ذكاء الفطرة،
والثاني: العدالة الشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية ـ فقد صد الناس عن
الباب الذي دعا الشرع منه الناس، إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدّي
إلى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى·. فالفلسفة
عند ابن رشد تفتح باب العلم بالله ومعرفته حق المعرفة.
ويرى ابن خلدون (ت 808هـ، 1406م) في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي
استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرِّفها قائلاً: ¸بأن
قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء
الحسي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة
العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع
فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان
اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوَّموا على إصابة الغرض
منه ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل
وسموه بالمنطق.· ويحذّر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل
الاطلاع على الشرعيات من التفسير والفقه، فيقول: ¸وليكن نظر من ينظر فيها
بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ
عليها وهو خِلْو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها·.
ولعل ابن خلدون وابن رشد اتفقا على أن البحث في هذا العلم يستوجب الإلمام
بعلوم الشرع حتى لا يضل العقل ويتوه في مجاهل الفكر المجرد لأن الشرع يرد
العقل إلى البسيط لا إلى المعقد وإلى التجريب لا إلى التجريد. من هنا كانت
نصيحة هؤلاء العلماء إلى دارسي الفلسفة أن يعرفوا الشرع والنقل قبل أن
يُمعنوا في التجريد العقلي.
ويذهب الكندي (ت نحو 260هـ، 873م) إلى أن الفلسفة هي علم الحق الأول الذي
هو علة كل حق، ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشرف هو المرء المحيط
بهذا العلم الأشرف لأن علم العلة في نظره أشرف من علم المعلول، والعلم
التام هو علم العلة. ويرى الفارابي (ت 339هـ، 950م) أن الفلسفة هي العلم
بالموجودات بما هي موجودة ويقسمها إلى حكمة إلهية وطبيعية ورياضية
ومنطقية. ويعطيها الشيخ الرئيس ابن سينا (ت428هـ، 1037م) طابعًا نفسيًا
فيقول: الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق
النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية. ويقسم الحكمة كذلك إلى نظرية
يتعلمها الإنسان، ولا يعمل بها، وحكمة عملية مدنية ومنزلية وأخلاقية.
وحول هذه المفاهيم، كان يتناول فلاسفة الإسلام الفلسفة مقتفين أثر
الأساتذة القدماء من حكماء اليونان. فكانوا تارة يقتربون من أساتذة
اليونان وتارة يبتعدون عنهم، ولم ينتهجوا منهجًا مستقلاً في التفلسف ولم
يخالفوا رأي القدماء إلا في المسائل التي تخرجهم من ملة الإسلام، وظلوا
أساتذة في هذا العلم في ظل أساتذة الفلسفة السابقين.
متى نشأت الفلسفة الإسلامية وكيف
إذا كانت كلمة فلسفة يونانية الأصل وكان المسلمون قد نظروا في فلسفة
اليونان، فكيف وصلت الفلسفة إلى المسلمين مع فارق المسافة والثقافة
واللغة؟ وهل كان علم الحق الأول عند المسلمين مستخرجًا من الكتاب والسنة؟
أو أن هناك مؤثرات أخرى جعلت من اتجه من المسلمين يتجه صوب الفلسفة؟
الشاهد التاريخي يقول إن القرآن والسنة لم يدفعا المسلمين إلى التفلسف ـ
إلا من باب التأمُّل الذي أمروا به ـ بل كانت هناك مؤثرات خارجية وفدت إلى
ديار المسلمين إثر عصور الترجمة، وحاول العلماء الذين خاضوا في هذه العلوم
الجديدة الوافدة التوفيق بين رصيدهم من العلوم النقلية الشرعية وبين
العلوم العقلية الفلسفية المنقولة باللغة السريانية أو العبرانية عن اللغة
اليونانية. وقد أثْرت حركة الترجمة الحياة العلمية عند المسلمين خاصة في
مجال العلوم الطبيعية. لكن على الرغم من ذلك فإن هناك بعض الملاحظات التي
أبداها علماء المسلمين على حركة الترجمة، منها أن المترجمين لم يكونوا من
أهل الاختصاص في العلوم التي نقلوها وحدث ما كان يخشاه علماء المسلمين من
التصحيف والتحريف في اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها، وكان ذلك
أشد وضوحًا فيما نقلوه من الفلسفة اليونانية. إن المترجمين نقلوا ـ مثلاً
ـ كتاب الربوبية لأفلوطين ونسبوه خطأً لأرسطو. وغلب على ظن كثير من
متفلسفة الإسلام أن الربوبية حقيقة لأرسطو ووقعوا في مغالطات الذين كانوا
يقولون بالتوفيق بين الفلسفة والدين، والعقل والنقل. ومن ناحية أخرى، فإن
بعض المترجمين كانوا قومًا أهل دين: منهم النساطرة النصرانيون الذين كانوا
ينشرون النصرانية في كل محفل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ومنهم اليهود
الذين كانوا يرون في الإسلام مزاحمًا ومنافسًا فكريًا فأرادوا أن يستبعدوه
ليخلو لهم الجو. هذا فيما يتعلق بالعلوم النظرية، أما العلوم التطبيقية،
فقد برع فيها المسلمون واستفادوا أيما فائدة من الترجمات والشروح على
الترجمات التي وصلت إليهم من العلوم اليونانية عن طريق السريانية. ظهرت
هذه الترجمات بعد الفتوحات الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي ولم يكن
دور العصر الأموي كبيرًا في الترجمة إلا أن العصر العباسي كان عصر الترجمة
الزاهر.
حركة الترجمة في العصر الأموي. لم يؤدِّ الأمويون دورًا كبيرًا في حركة
الترجمة، بل كان دورهم ثانويًا إبان الفتوحات الإسلامية لأنهم كانوا
حريصين على حماية الثغور وفتح البلدان وتأمين الدولة الجديدة، ما عدا
الدور الذي أدَّاه خالد بن يزيد الذي ترك الإمارة والحكم وكرّس جهده للطب
وترجمة كتب الكيمياء والطب إلى العربية. وظهر في هذا العصر الطبيب ما
سرجويه، وكان ينقل من السريانية إلى العربية. ودارت في هذا العصر مناقشات
وجدال حول الإمامة والجبر والاختيار كانت إرهاصًا بظهور الفرق الإسلامية
فيما بعد.
حركة الترجمة في العصر العباسي بدأت الترجمة في هذا العصر في خلافة
المنصور ونشطت حركة الترجمة من اليونانية إلى السريانية وظهرت أسماء بعض
المترجمين في هذا العصر أمثال سرجيوس الرأس عيني أو الرسعني الذي ترجم
آثار جالينوس في الطب والأخلاق وآثار أرسطو المنطقية إلى السريانية،
وعبدالله بن المقفع الذي ترجم من الفارسية إلى العربية حكايات كليلة
ودمنة، وقيل إنه ترجم بعض كتب أرسطو في المنطق. وازدهرت حركة الترجمة في
عصر المأمون إذ إنه أسس في بغداد مدرسة الحكمة أو بيت الحكمة سنة 217هـ،
832م وائتمن يحيى بن ماسويه عليه، وخلف يحيى تلميذه الشهير حنين بن إسحق
في الفترة الواقعة بين سنة 194-260هـ، 809-873م، وكان حنين أشهر مترجم
للمؤلفات اليونانية إلى السريانية والعربية دون منازع، وكذلك كان ابنه
إسحاق بن حنين وابن أخيه حبيش بن الحسن. ومن الأسماء التي لمعت في فن
الترجمة يحيى بن البطريق (مطلع القرن التاسع الميلادي) وعبد المسيح بن
عبدالله بن ناعمة الحمصي (النصف الأول من القرن التاسع)، وهو الذي كان
مساعدًا للفيلسوف الكندي وقد ترجم لأرسطو، وإليه يرجع الفضل في ترجمة كتاب
الربوبية (إثولوجيا) المنسوب إلى أرسطو وكان قد وضعه أفلوطين الإسكندري.
وكذلك لمع اسم قسطا بن لوقا البعلبكي، وقد كان طبيبًا وفيلسوفًا
وفيزيائيًا معروفًا ترجم شروح الإسكندر الأفروديسي ويوحنا فيلويون على
كتاب الطبيعة لأرسطو. وله شروح جزئية للكون والفساد لأرسطو، وله رسالة في
الفرق بين الروح والعقل، وله بحوث في الشفاء شبيهة بعلم النفس المعاصر.
وفي القرن العاشر الميلادي، ظهرت أسماء مثل أبي بشر متى القنائي (ت
329هـ،940م) والفيلسوف النصراني يحيى بن عدي صاحب تهذيب الأخلاق (ت 364هـ،
974م) وتلميذه أبي الخير بن الخمار (ولد 331هـ، 942م). وقد ظهرت في هذا
العصر مدرسة الرَّهَا وكانت تضم صابئة حران الذين كانوا يدينون بالمعتقدات
الكلدانية القديمة ويهتمون بالدراسات الرياضية والفلكية والروحية بالإضافة
إلى الأفلاطونية الفيثاغورثية المحدثة. ومن أشهر المترجمين في مدرسة الرها
ثابت بن قرة، وقد ترجم العديد من المؤلفات الرياضية والفلكية.
لماذا اشتغل المسلمون بالفلسفة. لم يهتم المسلمون بالآداب اليونانية لأنها
كانت وثنية في مبدئها ومنتهاها فلم يحفلوا بها كثيرًا. وكانت معرفتهم
بالفلسفة اليونانية عن طريق بلوتارك الذي نقل عن ديوجين اللايرتي،
وفرفوريوس، وجالينوس. ولذلك كانت معرفتهم بالفلسفة السابقة لسقراط مزيجًا
من الأساطير والخرافات التي نسبوها إلى فلاسفة اليــونان المتأخــرين في
مدرسة الإسكندرية.
وقد عرف المسلمون الفلاسفة الذين جاءوا قبل سقراط كأنبا دقليس الذي كانوا
يسمونه ابن دقليس، وديموقريطس وفيثاغورث، وكذلك عرفوا السوفسطائيين أمثال
بروتاغوراس وجورجياس وعرفوا سقراط عن طريق ما كتبه عنه إسكانوفان في
التعاليق وكتبوا عن سيرة سقراط وموته ودفاعه عن فكره حتى موته.
وكذلك عرفوا أفلاطون واعتبروه أقرب الفلاسفة إليهم لأنه تكلم عن الخلق
الإلهي وأثبت وجود الصانع وبرهن على وجود النفس وخلودها وكان تأثيره فيهم
كبيرًا. تأثر به الكندي والفارابي وابن سينا وكل التيار الإشراقي الصوفي
ومن دار في فلكهم. وتأثر هؤلاء أيضًا بأفلوطين صاحب الأفلاطونية المحدثة
والمذهب الإشراقي. وقد كان أرسطو مثار إعجاب فلاسفة الإسلام إذ إنهم، كما
كانوا يجلّون أفلاطون الإلهي، أصبحوا يقدرون أرسطو العقلي إعجابًا بعلمه
وعقله وإجلالاً لفلسفته. لكنهم وضعوا حول سيرته روايات وأساطير قصصية كانت
من عمل مدرسة الإسكندرية والسريان المتأخرين، ونُسبت إليه كتب كثيرة لم
تكن من تأليفه، نذكر منها على سبيل المثال، كتاب التفاحة وكتاب الربوبية
واشتغلوا بكتبه كثيرًا لا سيما كتب المنطق، وكذلك عرفوا كتبه في الأخلاق
والطبيعيات والسياسة. وقام فلاسفة الإسلام بمحاولة الجمع بين رأي الحكيمين
أفلاطون وأرسطو. وعندما توغل المسلمون في الفلسفة وفي شروح أرسطو ومنطقه
وأقيسته وأصبحوا أساتذة وطال باعهم في التفلسف، حصلت في القرن الثاني عشر
والثالث عشر الميلاديين حركة ترجمة عكسية من العربية إلى اللاتينية. وقد
أثرت هذه الترجمات على الفكر الأوروبي وأعادت إلى الأوروبيين التراث
اليوناني مزيدًا ومنقحًا ومشروحًا ومعلقًا عليه، ونشأت مدرسة أوروبية في
العصور الوسطى تُسمى بالرشدية لقيامها على آراء الفيلسوف المسلم ابن رشد
الذي كانوا يعرفونه بأفروس وعرفوا ابن سينا بأفيسينا، وكان كتاب القانون
في الطب لابن سينا يدرَّس في جامعات فرنسا إلى القرن الثالث عشر الميلادي
كما عرفته أيضًا قاعات أكسفورد إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي. وقد
كانت الفلسفة الإسلامية الجسر الذي نقل الفلسفة اليونانية إلى أوروبا.
تأثير الفلسفة في المتكلمين. كان المتكلمون يدافعون عن العقيدة ويقارعون
الخصوم الحجة بالحجة. وعندما شاع الاشتغال بالفلسفة والمنطق اليوناني،
خاضوا في مسائل المنطق للدفاع عن العقيدة، ومنهم من لم تعجبه أساليب
اليونان ففضل أساليب القرآن في الحجاج ومقارعة الخصوم، ومنهم من اشتغل
بالمنطق وقضاياه باعتباره أداة من أدوات المعرفة. وكانت لهم مآخذ على منطق
أرسطو وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ، 1328م) الذي قال إن منطق
أرسطو لا يحتاج إليه الذكي ولا يستفيد منه الغبي لأنه تحصيل حاصل، وذكر أن
المنطق يتأثر باللغة، وكذلك منطق اليونان قد تأثر باللغة اليونانية بكل ما
فيها من وثنيات، ولذلك يُخشى على من ليس لهم علم بذلك من معاطب الطريق.
نخلص من هذا إلى أن تأثير الفلسفة في المتكلمين وفي علماء المسلمين لم يكن
تأثير الأستاذ على التلميذ، كما تدّعي بعض الدوائر الاستشراقية، بل هو في
جملته تأثير عكسي، تأثير الذي يريد أن يعرف الشر لكي لا يقع فيه، وقد
عرفوا لهم الفضل وحفظوه فيما ليس فيه شر.
بعض قضايا الفلسفة الإسلامية
من المشكلات التي تعرَّض لها فلاسفة الإسلام بالجدال مشكلة إثبات وجود
الله ، وصفاته ووجود العالم أحادث هو أم قديم، ومشكلة النفس الإنسانية،
وهل هي موجودة وخالدة أم فانية؟ لقد تصدى الفلاسفة المسلمون لهذه المشكلات
ودخل بعضهم في بطون فلاسفة اليونان ولم يستطيعوا أن يخرجوا منها، وظل فكر
كثير منهم أسير التصورات اليونانية. ومن الذين تصدوا للدفاع عن الفلسفة
والخوض في مسائلها الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. وفيما يلي بعض
آرائهم في هذه المشكلات الفلسفية.
القضية الأولى ¸الله·. تناقش هذه القضية من خلال آراء الكندي والفارابي
وابن سينا وابن رشد. أما الكندي فيعرف بأنه فيلسوف العرب لأن جذوره تمتد
إلى أصل عربي قحطاني، كان أبوه من ملوك كندة بالعراق. انظر: الكندي، أبو
يوسف. عرف الكندي الاعتزال فكان من متكلمي المعتزلة وعرف الفلسفة عن طريق
الترجمة، وقيل كان يعرف اليونانية وترجم عن اليونانية، وكانت له علاقة
بابن ناعمة الحمصي. وقد كان له اطلاع واسع على الترجمات العربية للكتب
اليونانية وبخاصة فلسفة أرسطو كما أنه صحح بعض الترجمات وراجعها وألَّف
رسالة في الفلسفة الأولى، وهي في البحث عن الإلهيات، وهي عنده من أشرف
العلوم لأنها علم الحق. فالله عنده هو العلة الأولى، وهو الفاعل الأول
والمتمم لكل شيء ومؤيِّس الكل عن ليس، والأيْسُ هو الوجود وضده اللّيْس
وهو العدم، فالله هو موجد الكل من العدم. وقد تأثر الكندي في هذه الرسالة
بكتاب الربوبية (إيثولوجيا) المنسوب لأرسطو، وهو كتاب يبحث في الإلهيات
كتبه أفلوطين الإسكندري ونسبه فلاسفة الإسلام خطأ إلى أرسطو لأنهم لم
يعرفوا أنه مَنْحول على أرسطو. وفكرة الأيْس عن ليْس (خلق الوجود عن عدم)
فكرة أصيلة عند الكندي، وهي فكرة إسلامية تعني خلق العالم من عدم. والكندي
في هذه المسألة يخالف رأي أرسطو الذي يقول بقدم العالم، وهذه إحدى المسائل
التي جعلت الكندي مفكرًا أصيلاً في نظر بعض النقاد.
يقتفي الكندي هنا أثر أرسطو اليوناني ويقيم براهينه على وجود الله على نفس
النسق الأرسطي الذي يستند إلى الحركة والكثرة والنظام في إثبات وجود الله.
والبرهان الأول هو برهان الحدوث، فالشيء عنده لا يمكن أن يكون علة لذاته،
أي لا يمكن أن يكون موجودًا لذاته. وجرم العالم عنده متناه أي أن له بداية
في الزمن وما دام متناهيًا فهو موجود من العدم أي أنه أَيْس من ليْس، فهو
حادث ولابد له من محدث، ومحدثه هو الله لَيْس أن الله هو علة حدوثه.
ويوافق الكندي علماء الطبيعة المحدثين في أن العالم له بداية في الزمن ،
وهم يرجعون ذلك إلى ملايين السنين عندما كان الكون في حالة غازية سائلة
ملتهبة، أما الكندي فقد ذهب مذهبًا آخر عندما نظر إلى كتلة العالم فرأى
أنها إما أن تكون متناهية أو غير متناهية ووصل إلى أنها متناهية ومتميزة،
ومن ثم عرف أن الوجود المتناهي لابد أن تكون له بداية في الزمن.
أما البرهان الثاني الذي يتخذه على وجود الله، فهو برهان الكثرة، فقد رأى
الكندي أن الأشياء المحسوسة متكثرة بالأنواع ومتحدة بالأجناس، فالحيوان
واحد بالجنس كثير بالأنواع، حيث يضم الإنسان والحمار والحصان... إلخ،
فالاشتراك في الوحدة يرجع إلى علة أولى ما بعدها علة، هي علة اشتراكها في
الوحدة. وهذه العلة الأولى هي الله.
أما البرهان الثالث، فهو برهان التدبير وهو دليل الغائية في الوجود
المحسوس. فالعالم المحسوس لم يوجد عبثًا بل لابد له من مدبّر، ولا يمكن
معرفة المدبّر إلا بمعرفة تدبيره، وهو الكون المحسوس المنتظم. وهذا الدليل
اقتبسه الكندي من أرسطو.
يأتي بعد الكندي الفارابي وهو تركي الأصل من إقليم فاراب بتركيا وأمه
فارسية. توفي سنة 339هـ، 950م. لقّبه مؤرخو الفلسفة بالمعلم الثاني،
(لتأثره بأرسطو الذي لقّبه مؤرخو الفلسفة بالمعلم الأول)، وذلك لتأثره
كلية بفلسفة أرسطو. وقد عُرفت فلسفته بأنها فلسفة توفيقية يحاول فيها
الفارابي أن يوفق بين عقيدته الإسلامية وفلسفة اليونان. انظر: الفارابي،
أبو نصر.
أما دليله على وجود الله فهو دليل الوجوب والإمكان. يقسم الموجودات إلى
قسمين: ممكن الوجود وواجب الوجود. وواجب الوجود عنده هو الموجود الذي
وجوده من ذاته، فإذا فُرض عدم وجوده لكان ذلك مُحالاً. أما ممكن الوجود
فهو الذي وجوده من غيره، فإذا فُرض عدم وجوده لما كان ذلك محالاً. والوجود
الممكن يتعادل وجوده وعدمه، أي أن وجوده وعدمه سواء إلا إذا ترجح أحدهما
على الآخر. فإذا ترجح وجوده كان لابد له من مرجح يرجح وجوده على عدمه أي
لابد له من موجد ترجح عنده الوجود على العدم فأخرجه إلى الوجود. فلابد لكل
موجود ممكن الوجود من مرجّح لوجوده على عدمه، ولا يمكن أن تمضي سلسلة
المرجحات الممكنة الوجود إلى مالانهاية لأن هذا محال، فلابد إذن أن نصل
إلى مبدأ أول أو سبب أول هو علة وجود كل الممكنات في العالم وهو الذي رجح
وجود هذا العالم على عدمه وهو الله. وهو واجب الوجود بذاته ولا يحتاج إلى
غيره أبدًا. وقد رفض الفارابي دليل الحكماء الطبيعيين الذين يرون أنه لابد
من الاستدلال على وجود الله بآثاره لأن الصنعة تدل على الصانع، وهذا يعني
أنهم يصعدون من الفعل إلى الفاعل، ومن المخلوق إلى الخالق، لكنه يرى أنهم
يفكرون في الأفعال التي تصدر في العالم فلا يتجاوزون عالم الحوادث
المتناقضة، ولا يجدون تصورات شاملة للموجودات. أما الفارابي، فقد أراد أن
يصل إلى العلة الأولى الوحيدة، وهذه العلة الوحيدة هي واجب الوجود. ومعنى
الموجود الواجب يحمل في ذاته البرهان على أنه واحد لا شريك له، فلو وجد
موجودان كل منهما كامل الوجود وواجب الوجود لكانا متفقين من وجه ومتباينين
من وجه، وما به الاتفاق غير ما به التباين، فلا يكون كل منهما واحدًا
بالذات، فالموجود الذي له غاية الكمال يجب أن يكون واحدًا. فهو واحد
بالذات لا تركيب فيه ولَيْس له ليس ولا يمكن حده، لكن الإنسان يثبت للبارئ
أحسن الأسماء الدالة عليه وعلى منتهى كماله، وتأثر الفارابي هنا بفلسفة
أرسطو في المحرك الأول.
وعمومًا كان للفارابي الفضل في توطيد أركان الفلسفة في العالم الإسلامي؛
فقد اتخذت شكلها التي آلت إليه بعد وفاته إلى أن جاء عصر ابن رشد؛ حيث مزج
الفارابي بين الأفلاطونية والأفلوطينية من جهة والفلسفة الأرسطية المشائية
من ناحية ثانية، ومن ثم نجد ذلك التشابه التام فيما ذكره الفارابي عن
المدينة الجماعية في كتاب السياسة المدنية والديمقراطية التي وضعها
أفلاطون.
ولأن الفارابي لم يكن لديه تلاميذ مباشرون، فقد أثر فيمن أتي بعده من
الفلاسفة العرب والمسلمين، وكان على رأس هؤلاء الشيخ الرئيس ابن سينا الذي
اعتمد على الفارابي في فهم الفلسفة اليونانية، وبالتالي في وضع كثير من
الآراء والنظريات.
أما ابن سينا فقد عُرف عند مؤرخي الفلسفة بالشيخ الرئيس وذلك لاشتغاله
بالعلم والوزارة، ولد بأفشنة بالقرب من بخارى بفارس سنة 370هـ،980م، وحفظ
القرآن منذ نعومة أظفاره، وكان عنده شغف بالعلم ونهم لا ينقطع للاطلاع
والقراءة فاشتغل بالطب والفلسفة والكيمياء والفقه والرياضة والهندسة، وبرع
في كل ما درسه، وما جلس لأستاذ قط إلا صار أستاذًا لأستاذه. انظر: ابن
سينا. وقد تأثر بأفلاطون وأرسطو عن طريق شروح الفارابي، وأما فلسفته،
فكانت مزيجًا من الأفلاطونية والمشائية (فلسفة أرسطو).
ولإثبات وجود الله عند ابن سينا، فقد قسم الأدلة إلى قسمين: دليل عقلي
ودليل حسي؛ أما الدليل العقلي فهو دليل الإمكان الذي ذهب إليه الفارابي
حيث قسم الموجودات إلى واجب وممكن، فالواجب الوجود هو الذي متى فرض غير
موجود عرض عنه محال. والممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود لم يعرض
عنه محال، والواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا
ضرورة فيه بوجه، أي لافي وجوده ولا في عدمه.
وواجب الوجود إما أن يكون واجبًا بذاته وإما أن يكون بغيره. والبارئ عز
وجل هو الواجب لذاته لا لشيء آخر. أما واجب الوجود بغيره فهو واجب الوجود
لا بذاته؛ فالاحتراق مثلاً واجب الوجود لا بذاته ولكن عند التقاء القوة
المحرقة والمحترقة، ومن هنا يتشعب الوجود إلى ثلاثة أقسام. واجب الوجود
بذاته، وواجب الوجود بغيره، وممكن الوجود. وواجب الوجود هو العلة الأولى
ومبدأ الوجود المعلول على الإطلاق، لأنه لا توجد سوى علة واحدة مطلقة هي
واجب الوجود. والممكنات هي الموجودات الصادرة عنه التي تحتاج في وجودها
الممكن إلى علة هي واجب الوجود، وترتفع الأسباب كلها إليه لأنه غاية
الموجودات جميعًا وإليه ترجع الأسباب جميعًا. وكما ترى، فهذا الدليل هو
عين الدليل الذي ذكره الفارابي لإثبات وجود الله، وهو دليل عقلي لأنه
يستند إلى التأمل في مفهوم الواجب والممكن ومن ثم يصل عقليًا، عن طريق
الاستنباط، إلى ضرورة وجود الواجب الوجود. ويرى بعد ذلك أننا يجب أن لا
نستند في البرهان على الخالق إلى شيء من مخلوقاته لأننا نستطيع أن نصل إلى
الوجود الأول الواجب الوجود عقليًا ونعرف أن وجوده عين ما هيته أي أنه
وجود متحقق. وهو يختلف عن الدليل الأول في أن ابن سينا لا يستخدم المنطق
بل يصل إلى الدليل بالحدس المباشر. والحدس ضرب من ضروب المعرفة المباشرة
دون وسيط حسي، إذ إن ابن سينا هنا لم يستدل بالمخلوق على الخالق كما هو
الحال في الدليل الكوني، بل حدس فكرة الموجود الأول من فكرة الوجود فقط
ووصل إلى وحدانيته لأنه يشهد على ما بعده في الوجود.
يقول ابن سينا في الإشارات: ¸تأمل كيف لم يحتج برهاننا لثبوت الأول إلى
تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله، وإن كان ذلك
دليلاً عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود، فشهد
به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود،
وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الإلهي: ﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي
أنفسهم﴾ فصلت: 53 ، أقول: هذا حكم لقوم، ثم يقول: ﴿ أو لم يكف بربك أنه
على كل شيء شهيد﴾ فصلت: 53 ، أقول إن هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به
لا عليه". وابن سينا يعني بهذا أنه لم يستشهد بوجود المخلوق على وجود
الخالق بل فعل عكس ذلك فاستشهد بوجود الخالق على وجود المخلوق. ويسميه
الفلاسفة الدليل الوجودي.
يأتي بعد ابن سينا في هذه القضية العالم الأندلسي ابن رشد، الذي ولد
بقرطبة عام 520هـ، 1126م ويسمى ابن رشد الحفيد لأن أباه كان قاضيًا
وفقيهًا وكذلك جده لأبيه كان من أشهر فقهاء الأندلس، وقد كان هو فقيهًا
وطبيبًا وفيلسوفًا، وقد تأثر بفلسفة أرسطو حتى سُمي بالشارح الأكبر لفلسفة
أرسطو، وقد أثر في الفكر الفلسفي الغربي، وقامت مدرسة فلسفية غربية في
القرون الوسطى تُسمى بالرشدية وتتميز فلسفته بالتوفيق بين الفلسفة والدين.
انظر: ابن رشد .