قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: « مَنْ رزقه الله مالاً فبذل معروفه، وكف أذاه، فذلك السيد ». وقيل لقيس ابن عاصم: بِمَ سُدْتَ قومك؟ قال: لم أخاصم أحدًا إلا تركت للصلح موضعًا. وقال سعيد بن العاص: ما شاتمت رجلاً مذ كنت رجلاً، لأني لم أشاتم إلا أحد الرجلين: إما كريم فأنا أحق أن أجله ، وإما لئيم فأنا أولى أن أرفع نفسي عنه. وقالوا: مِنْ نَعْتِ السيد أن يكون يملأ العينَ جمالاً؛ والسَّمْعَ مقالاً. وقيل: قدم وفدٌ من العرب على معاوية وفيهم الأحنف بن قيس، فقال الحاجب: إن أمير المؤمنين يعزم عليكم أن لا يتكلم منكم أحد إلا لنفسه. فلما وصلوا إليه، قال الأحنف: لولا عزم أمير المؤمنين لأخبرته أن رادفة ردفت، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، و الكل بهم حاجة إلى المعروف من أمير المؤمنين. فقال له معاوية: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الشاهد والغائب.
وقال رجل للأحنف: بِمَ سُدْتَ قومك وما أنت بأشرفهم بيتًا، ولا أصبحهم وجهًا ولا أحسنهم خلقًا؟ فقال: بخلاف ما فيك. قال: وما ذاك؟ قال: تركي من أمرك مالا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك. وقيل: السيد من يكون للأولياء كالغيث الغادي، وعلى الأعداء كالليث العادي.
وكان سبب ارتفاع عرابة الأوسي وسؤدده أنه قدم من سفر فجمعه و الشماخ بن ضرار المزني الطريق ، فتحادثا ، فقال له عرابة: ما الذي أقدمك المدينة يا شماخ ؟ قال : قدمتها لأمتار(1) منها فملأ له عرابة رواحله بُرًّا وتمرًا، وأتحفه بتحف غير ذلك. فأنشد يقول:
رأيــتَ عرابــةَ الأوسيَّ يسـمُو ... إلى الخيـراتِ منقطــعَ القريــنِ
إذا مـا رايــةٌ رُفِـعَــتْ بـمَـجــدٍ ... تَـلَـقّـــاهَــا عَــرابــةَ بـــالـيمينِ
إذا مـا رايــةٌ رُفِـعَــتْ بـمَـجــدٍ ... تَـلَـقّـــاهَــا عَــرابــةَ بـــالـيمينِ
وأما علوّ الهمة فهو أصل الرياسة .
وممن علت همته ، وشرفت نفسه ، عمارة بن حمزة . قيل : إنه دخل يومًا على المنصور وقعد في مجلسه فقام رجل ، وقال : مظلوم يا أمير المؤمنين . قال : و مَنْ ظلمك ؟ قال : عمارة بن حمزة غصبني ضيعتي . فقال المنصور: يا عماره قم فاقعد مع خصمك. فقال : ما هو لي بخصم ، إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها ، وإن كانت لي فقد وهبتها له ، ولا أقوم من مقام شرفني به أمير المؤمنين ورفعني ، وأقعد في أدنى منه لأجل ضيعة.
وتحدث السفاح هو وأم سلمة يومًا في نزاهة نفس عمارة وكبره فقالت له : ادع به وأنا أهب له سبحتي هذه فإن ثمنها خمسون ألف دينار فإن هو قبلها علمنا أنه غير نزه(2) النفس. فوجه إليه فحضر فحادثته ساعة ثم رمت إليه بالسبحة وقالت : هي من الطُّرف ، وهي لك فجعلها عمارة بين يديه ، ثم قام وتركها. فقالت : لعله نسيها. فبعثت بها إليه مع خادم ، فقال للخادم : هي لك . فرجع الخادم فقال : قد وهبها لي . فأعطت أم سلمة للخادم ألف دينار واستعادتها منه.
وأهدى عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولى مصر مائة وصيف ، مع كل وصيف ألف دينار، ووجه إليه بذلك ليلاً فرده وكتب إليه : لو قبلت هديتك ليلاً لقبلتها نهارًا {فَمَا آتَانِي اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}(3) .
وكان سبب فتح المعتصم عمورية إن امرأة من الثغر سُبيت فنادت : وامحمداه، وامعتصماه. فبلغه الخبر، فركب لوقته ، وتبعه الجيش. فلما فتحها قال : لبيك أيتها المنادية.
وكان سعيد بن عمرو بن العاص ذا نخوة وهمة ، و قيل له في مرضه : إن المريض يستريح إلى الأنين ، وإلى شرح ما به إلى الطبيب. فقال : أما الأنين فهو جزع وعار، واللهِ لا يسمع اللهُ مني أنينًا فأكون عنده جزوعًا ؛ وأما وصف ما بي إلى الطبيب فوالله لا يحكم غير الله في نفسي ، إن شاء أمسكها ، وإن شاء قبضها.
ومن كبر النفس ما روي عن قيس بن زهير أنه أصابته الفاقة واحتاج ، فكان يأكل الحنظل حتى قتله ، ولم يخبر أحدًا بحاجته .
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- لأمتار : لأجلب الميرة و هي الطعام الذي يحفظ لأيام الحاجة.
(2)- النزاهة : العفة.
(3)- سورة النمل : 36.