أنا ذا العاهة الآخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" الآخر، وأحمق قسنطينة الآخر.. ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبها عمراً؟
وكانت تشبهك..
تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميلاد. خارجة لتوّها من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار.
كان اسمها يوماً "سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى.
وكانوا رجالاً.. في غرور العسكر!
من هنا مرّ صيفاكس.. ماسّينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهم آخرون.
تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبّهم وخوفهم وآلهتهم.
تركوا تماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسوراً رومانية..
.. ورحلوا.
لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم "قسنطينة" الذي منحه لها من ستة عشرة قرناً "قسطنطن".
أحسد ذلك الإمبراطور الروماني المغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة الأولى.. وإنما اقترن بها لأسباب تاريخية محض.
وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي.
وربما لذلك، يحدث أن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة "سيرتا" لأعيدها إلى شرعيّتها الأولى.
تماما.. كما أناديك "حياة".
ككلّ الغزاة.. أخطأ قسطنطين.
المدن كالنساء.. نحن لا نمتلكها لمجرد أننا منحناها اسمنا.
لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ، وتتربّص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوماً من علوّ صخرتها.
كنسائها كانت تغري بالفتوحات الوهمية..
ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد!
هنا أضرحة الرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحد وأربعين باياً تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد الفرنسيين.
هنا وقفت جيوش فرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة.
فرنسا التي دخلت الجزائر سنة 1830، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على صخرة، إلا سنة 1837، سالكة ممراً جبليا تركت فيه نصف جيشها، وتركت فيه قسنطينة خيرة رجالها.
منذ ذلك اليوم، ولد أكثر من جسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات المؤدية إليها.
ولكن، كانت الصخرة دائماً أكبر من الجسور، لأنها تدري أن لا شيء تحت الجسور سوى الهاوية!
ها هي مدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بملاءتها السوداء وتخفي سرّها عن كل سائح.
تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر من وليّ صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور.
هنا القنطرة.. أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياً على الأقدام، بين الدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من طرف إلى آخر.
كل شيء كان يبدو مسرعاً على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاً ما كان ينتظرهم على الطرف الآخر.
ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه، قد يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، لا فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما في فوقه.. وما تحته.
تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي لا أكثر، والتي لا يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما لأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يتأمل الموت.. كثيرا.
وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق.
ترى لأنني أتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، لأنفرد بهذه المدينة على جسر؟
***
هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ موعداً مع ذاكرتك على جسر.
خاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماماً منذ سنين..
قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوماً من جسر ربما كان هذا.. بعدما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض وجهاء قسنطينة للإطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص.. ورجل ثقته.
يبدو أنه كان لا يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان الانتحار في حدّ ذاته عاراً وكفراً في مجتمع قسنطيني متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى غرب الجزائر مستبدلة باسم نكرة اسمها الأول. ولم تعد إلى قسنطينة إلا بعد جيل وأكثر، باسمٍ لمدينة أخرى.
أعيد نظري إلى أسفل.
ماذا تراني جئت أبحث هنا، في هذا الجسر المعلّق على ارتفاع مئة وسبعين متراً من جوف الأرض، والذي تعبره أسراب الغربان على عجل؟
تراني أبحث عن بقايا جدّ ما، كان اسمه أحمد.. يقال إنه كان وسيماً وذا مالٍ وعلم كبير، وأنه رمى يوماً كل شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثاً لتلك العائلة.
هذه هي قسنطينة..
مدينة لا يهمها غير نظرة الآخرين لها، تحرص على صيتها خوفاً من القيل والقال الذي تمارسه بتفوق. وتشتري شرفها بالدم تارة.. والبُعد والهجرة تارة أخرى.
تراها تغيّرت؟
أذكر أنني سمعت وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة فجأة إلى مدينة أخرى، بعدما شاع أن إحدى الأغاني التي ما يزال يغنّيها "الفرقاني" اليوم، قد نظمها أحدهم تغزّلاً في إحدى بناتها!
ويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذا الجسر؟
تراني على موعد مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في هذا الصباح؟
ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة ولا ألوان، وبلا قلق أو خوف من مربّع القماش الأبيض.
أنا لست خالقها في هذه اللحظة. لست رسّامها ولا مبدعها. أنا جزء منها. ويمكنني أن أصبح حتى جزءاً من تفاصيلها وتضاريسها.
يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني عنها، وكأنني أجتاز إطار لوحة.. كأنني أخترقها لأسكنها إلى الأبد.
أتدحرج نحو هذا الوادي الصخري العميق نقطة بشرية، قطرة للونٍ ما.. على لوحةٍ أبدية، لمنظر أردت أن أرسمه.. فرسمني.
أليست هذه أجمل نهاية لرسّام، أن يتوحد مع لوحته في مشهد واحد؟
كنت أدري في تلك اللحظة وأنا أنظر إلى الوهاد العميقة تحتي، إلى تلك الأنفاق الصخرية التي يشطرها نهر الرمال ببطء زبديّ، أن "الهاوية الأنثى" كانت تستدرجني إلى العمق، في موت شبقيّ أخير، ربما كان فرصتي الأخيرة للتوحد الجسديّ مع قسنطينة، ومع ذاكرة جدّ بدأت أشعر بتواطؤ غامض معه.
ترى شهوة السقوط والتحطم هي التي أشعرتني عندئذٍ بالدوار، وأنا معلّق على ذلك الجسر وحدي؟
وإذا بي أشعر فجأة بالخجل من هذه المدينة.. وأكاد أعتذر لها. وحدهم الغرباء هنا يشعرون بالدوار. فمتى بالتحديد وضعتني قسنطينة في خانتهم؟
ورغم ذلك أعترف، أنني لم أكن يومها مستعداً للموت.
ليس تمسكاً منيّ بالحياة. ولكن لأنني وصلت بذلك الحزن الجارف العميق الذي اجتاحني منذ وطئت هذه المدينة، إلى عاطفة غامضة متطرفة أخرى.
لقد وصلت بمرارتي وخيبتي حد الطمأنينة والسعادة المبهمة.
فلقد تعلّمت أن أسخر من استفزاز الأشياء لي، وأقابل تلك المواجهة مع الذاكرة بشيء من التهكم المرّ.
ألم آت هنا إثر قرارٍ جنوني، ربما بحثاً عن الجنون في مدينة تكاد تحترفه! ولذا بدأت أتلذّذ سراً بهذه اللعبة الموجعة، وأحرص على أن أعيش صدماتي بمازوشيّة متعمّدة. فربما كانت خيبتي اليوم مع هذه المدينة، هي منجم جنوني وعبقريتي القادمة.
وبرغم ذلك قررت فجأة أن أهرب من ذلك الجسر الذي كان بداية جنوني يوماً.
فجأة تطيّرت منه، أن الذي أولعت به طويلاً وحولته إلى ديكور لحياتي، بعدما أحطت نفسي بأكثر من نسخة منه.
أيكون ذلك الإحساس جاءني، وأنا ألمح من حيث كنت تلك السفوح الجبلية التي كانت يوماً مرشوشة بشقائق النعمان.. وأزهار النرجس المنثور بين الممرات الخضراء، والتي كان أهل قسنطينة يأتون إليها كل سنة لاستقبال الربيع.. محمّلين بما أعدّته النساء لتلك المناسبة من "براج" وحلويات وقهوة.. والتي تبدو اليوم حزينة، وكأن أزهارها غادرتها لسبب غامض؟
أم تراه منظر مزار (سيدي محمد الغراب) الذي يعود فجأة إلى الذاكرة. وإذا بي أستعيد ما قرأته عنه مؤخراً في كتاب تاريخي عن قسنطينة. فتعبرني قشعريرة غامضة.
ماذا لو لاحقتني دون أن أدري اللعنة التي لاحقت صالح باي أكبر بايات قسنطينة على الإطلاق بسبب هذا الجسر؟ هو الذي كان يريد أن يختم إنجازاته المعمارية الهائلة، وإصلاحاته المختلفة التي وهبها لتلك المدينة، بإصلاح جسر القنطرة، اللسان الترابي الوحيد الذي كان يربط المدينة بالخارج، والجسر الوحيد الذي صمد من بين خمسة جسور رومانية.
تقول أسطورة شعبية، إن هذا الجسر كان أحد أسباب هلاك (صالح باي) ونهايته المفجعة..
فقد قتل فوقه (سيدي محمد)، أحد الأولياء الذين كانوا يتمتّعون بشعبية كبيرة. وعندما سقط رأس الرجل الولي على الأرض، تحول جسمه إلى غراب، وطار متوجهاً نحو دار صالح باي الريفية التي كانت على تلك السفوح. ولعنه واعداً إياه بنهاية لا تقل قسوة ولا ظلماً عن نهاية الولي الذي قتله.
فما كان من صالح باي إلا أن غادر بيته وأراضيه إلى الأبد، تطيّراً من ذلك الغراب، واكتفى بداره في المدينة.
هكذا أطلق الناس على ذلك المكان اسم "سيدي محمد الغراب"، ليبقى بعد قرنين مزار المسلمين واليهود في قسنطينة، يأتونه في نهايات الأسبوع وفي المواسم، لقضاء أسبوع كامل يرتدون خلاله ثياباً وردية، يؤدون بها طقوساً متوارثة جيلاً عن جيل، فيقدّمون له ذبائح الحمام، ويستحمّون في المياه الدافئة لبركته الصخرية حيث كانت تستحمّ السلاحف، ويعيشون على شرب "العروق" لا غير، والاستسلام لنوبات رقص بدائية، في حلقات جماعية يؤدونها في الهواء الطلق.. على وقع بندير "الفقيرات".
ولكن قسنطينة، لم تحقد على بايها الذي وهبها الكثير من الوجاهة والرفاهية.
سوّت فقط بطيبة أو بجنون.. بين القاتل والقتيل.
صنعت من (سيدي محمد الغراب) أشهر مزار وليّ قسنطيني على الإطلاق، في مدينة يحمل كل شارع فيها اسم وليّ.
وخلّدت من بين واحد وأربعين باياً حكمها، اسم صالح باي وحده، فكتبت فيه أجمل أشعارها، وغنّت فجيعة موته في أجمل أغنية رثاء. ومازالت تلبس حداده حتى اليوم مع ملاءات نسائها السوداء.. دون أن تدري!
هذه هي قسنطينة..
لا فرق بين لعنتها ورحمتها، لا حاجز بين حبّها وكراهيّتها، لا مقاييس معروفة لمنطقها.
تمنح الخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء.
فمن عساه يحاسبها على جنونها، ومن عساه يحسم موقفه منها، حباً أو كراهية.. إجراماً أو براءةً.. دون أن يعترف أنها تحمل في كل الحالات ضدّها؟
***
في كل يوم كنت أقضيه في تلك المدينة، كنت أتورط أكثر في ذاكرتها، فرحت أبحث في سهراتي مع حسان، وأحاديثنا الجانبية الطويلة، التي تمتد بنا أحياناً حتى ساعة متأخرة من الليل.. عن وصفة أخرى للنسيان.
أبحث في ذلك الجو العائلي الذي افتقدته طويلاً عن طمأنينة أخرى خارج فضائها.
كان لوجودي في ذلك البيت العائلي الذي أعرفه ويعرفني، تأثير على نفسيّتي في تلك الأيام. وربما كان سندي السريّ الذي لم أتوقّعه. لقد كنت أعود إليه كل ليلة، وكأنني أصعد نحو دهاليز طفولتي البعيدة، لأصبح جنيناً من جديد..
أختبئ في جوف أمٍ وهمية، مازال مكانها هنا فارغاً منذ ثلاثين سنة.
يحدث في تلك الليالي أن أذكر زياد، يوم أقام عندي لبضعة أشهر في الجزائر، عندما رفض مستأجره أن يجدّد له عقد إيجار البيت.
تعوّدت وقتها أن أترك له سريري، وأنام على فراش آخر وضعته على الأرض في غرفة أخرى.
وكان زياد يحتج ويشعر بشيء من الإحراج، معتقداً أنني أفعل ذلك مجاملة له.
وكنت أوكّد له كل مرة، أنني اكتشفت بفضله أنني أسعد أكثر بالنوم على الأرض. فقد كان ذلك الفراش الأرضي يذكّرني بطفولتي وبنومي إلى جوار أمي لعدة سنوات، على ذلك المطرح الصوفي الذي ما زلت أذكر لونه الأزرق. بل وتلك الأيام التي كانت تخصّصها (أمّا) كل خريف، لغسل الصوف وتجديد تلك المطارح الصوفية التي كانت الأثاث الأساسي لغرفة نومي.
تمنّيت لو طلبت من عتيقة أن تضع لي في المستقبل فراشاً على الأرض، تماماً كما تفعل مع أولادها الذين ينامون في الغرف الأخرى، على فراش أرضي مشترك يوحي بالدفء والرغبة بالانزلاق تحت أغطيته الصوفية الجميلة التي تثير غيرتي وحنيني لزمنٍ لم أعد أدري لبعده، إن كنت عشته حقاً.. أم تخيّلته.
ولكن أيعقل أن أطلب هذا الطلب من عتيقة؟ هي التي أعطتني أجمل غرف بيتها، غرفة نومها العصرية المعدّة لاستقبال الضيوف، أكثر منها لقضاء ليالٍ زوجية.. للحب؟
لو فعلت هذا فلربما أحرجتها، ولما وجدت تفسيراً لجنوني هذا. فقد كانت عتيقة تشارك أحياناً في سهرتنا، وتحاول أن تستنجد بي، بصفتي رجلاً متحضّراً قادماً من باريس، لأقنع أخي بالتخلي عن هذا البيت العربي القديم، وهذه الطريقة المتخلّفة في العيش. وتكاد تعتذر لي عن كل الأشياء التي كانت تبدو في نظري جميلة.. ونادرة.
ولأنني لم أكن أملك القدرة على إقناعها برأيي، ولا الجرأة على معاكسة رأيها، كنت أكتفي بالاستماع إلى نقاشها مع حسان، ذلك النقاش الذي يكاد يتحول أحياناً إلى شجار قبل أن تنسحب هي إلى النوم، ويعلّق حسان شبه معتذر:
"لا يمكن أن تقنع امرأة تشاهد مسلسل (دالاس) على التلفزيون، أن تسكن بيتاً كهذا وتحمد الله.. لا بد أن يوقفوا هذا المسلسل، ماداموا عاجزين عن منح الناس سكناً محترماً.. وحياة أفضل..".
كنت أحسد قناعة حسان. وأعجب بفلسفته في الحياة.
كان يقول: "لكي تكون سعيداً عليك أن تنظر إلى من تحتك. فإذا كان في يدك قطعة رغيف، ونظرت لمن ليس في يده شيء، ستسعد وتحمد الله. وأما إذا رفعت رأسك كثيراً ونظرت لمن في يدهم قطعة "كعك" فأنت لن تشبع، بل ستموت قهراً فقط.. وتتعس باكتشافك!".
وهكذا ففي نظر حسان أن العيش في بيت كهذا برغم كل سلبياته التي تبدو أحياناً مزعجة، بتفاصيلها الصغيرة التي تجاوزها العصر، يظل أفضل مما يعانيه آلاف الناس. بل وعشرات الآلاف الذين لم يجدوا بيتاً واسعاً كهذا يسكنونه بمفردهم مع أولادهم وزوجتهم. بل كثيراً ما يتقاسمون مع أهلهم وأقاربهم، الشقة الضيقة التي تكون بيتاً لعائلتين لعدة سنوات.
هكذا كان حسان..
"لقد كانت نظرته إلى الأشياء نظرة عمودية، فقد تعلم كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائط..".
وكان سعيداً بتلك النظرة التي قد تعود أيضاً إلى عقليته كموظف محدود الدخل.. ومحدود الأحلام!
فَبِمَ يمكن أن يحلم أستاذ للعربية يقضي يومه في شرح النصوص الأدبية، وسرد سيرة الكتّاب والشعراء القدامى على تلاميذه.. وتصحيح أخطائهم النحوية والإنشائية، ولا يجد متسعاً من الوقت _أو الجرأة_ لشرح ما كان يحدث أمامه، وتصحيح أخطاء أكبر ترتكب على مرأى منه باسم كلمات خرجت فجأة من اللغة، لتدخل قاموس الشعارات والمزايدات؟.
كان في أعماق حسان مرارة غامضة تبدو على كل تفاصيل حياته. ولكنه كان يحتفظ بها لنفسه.
من الواضح أنه كان متعباً وغارقاً في مشكلات أولاده الستّة وزوجته الشابة التي تحلم بحياة أخرى غير حياة قسنطينة المغلقة. وأما هو فلم يكن يجرؤ على الحلم، أو بالأحرى كان يحلم آنذاك بالعثور على شخص يتوسط له ليحصل على ثلاجة جديدة.. لا غير
وكانت تشبهك..
تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميلاد. خارجة لتوّها من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار.
كان اسمها يوماً "سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى.
وكانوا رجالاً.. في غرور العسكر!
من هنا مرّ صيفاكس.. ماسّينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهم آخرون.
تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبّهم وخوفهم وآلهتهم.
تركوا تماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسوراً رومانية..
.. ورحلوا.
لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم "قسنطينة" الذي منحه لها من ستة عشرة قرناً "قسطنطن".
أحسد ذلك الإمبراطور الروماني المغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة الأولى.. وإنما اقترن بها لأسباب تاريخية محض.
وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي.
وربما لذلك، يحدث أن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة "سيرتا" لأعيدها إلى شرعيّتها الأولى.
تماما.. كما أناديك "حياة".
ككلّ الغزاة.. أخطأ قسطنطين.
المدن كالنساء.. نحن لا نمتلكها لمجرد أننا منحناها اسمنا.
لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ، وتتربّص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوماً من علوّ صخرتها.
كنسائها كانت تغري بالفتوحات الوهمية..
ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد!
هنا أضرحة الرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحد وأربعين باياً تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد الفرنسيين.
هنا وقفت جيوش فرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة.
فرنسا التي دخلت الجزائر سنة 1830، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على صخرة، إلا سنة 1837، سالكة ممراً جبليا تركت فيه نصف جيشها، وتركت فيه قسنطينة خيرة رجالها.
منذ ذلك اليوم، ولد أكثر من جسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات المؤدية إليها.
ولكن، كانت الصخرة دائماً أكبر من الجسور، لأنها تدري أن لا شيء تحت الجسور سوى الهاوية!
ها هي مدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بملاءتها السوداء وتخفي سرّها عن كل سائح.
تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر من وليّ صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور.
هنا القنطرة.. أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياً على الأقدام، بين الدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من طرف إلى آخر.
كل شيء كان يبدو مسرعاً على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاً ما كان ينتظرهم على الطرف الآخر.
ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه، قد يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، لا فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما في فوقه.. وما تحته.
تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي لا أكثر، والتي لا يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما لأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يتأمل الموت.. كثيرا.
وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق.
ترى لأنني أتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، لأنفرد بهذه المدينة على جسر؟
***
هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ موعداً مع ذاكرتك على جسر.
خاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماماً منذ سنين..
قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوماً من جسر ربما كان هذا.. بعدما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض وجهاء قسنطينة للإطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص.. ورجل ثقته.
يبدو أنه كان لا يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان الانتحار في حدّ ذاته عاراً وكفراً في مجتمع قسنطيني متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى غرب الجزائر مستبدلة باسم نكرة اسمها الأول. ولم تعد إلى قسنطينة إلا بعد جيل وأكثر، باسمٍ لمدينة أخرى.
أعيد نظري إلى أسفل.
ماذا تراني جئت أبحث هنا، في هذا الجسر المعلّق على ارتفاع مئة وسبعين متراً من جوف الأرض، والذي تعبره أسراب الغربان على عجل؟
تراني أبحث عن بقايا جدّ ما، كان اسمه أحمد.. يقال إنه كان وسيماً وذا مالٍ وعلم كبير، وأنه رمى يوماً كل شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثاً لتلك العائلة.
هذه هي قسنطينة..
مدينة لا يهمها غير نظرة الآخرين لها، تحرص على صيتها خوفاً من القيل والقال الذي تمارسه بتفوق. وتشتري شرفها بالدم تارة.. والبُعد والهجرة تارة أخرى.
تراها تغيّرت؟
أذكر أنني سمعت وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة فجأة إلى مدينة أخرى، بعدما شاع أن إحدى الأغاني التي ما يزال يغنّيها "الفرقاني" اليوم، قد نظمها أحدهم تغزّلاً في إحدى بناتها!
ويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذا الجسر؟
تراني على موعد مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في هذا الصباح؟
ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة ولا ألوان، وبلا قلق أو خوف من مربّع القماش الأبيض.
أنا لست خالقها في هذه اللحظة. لست رسّامها ولا مبدعها. أنا جزء منها. ويمكنني أن أصبح حتى جزءاً من تفاصيلها وتضاريسها.
يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني عنها، وكأنني أجتاز إطار لوحة.. كأنني أخترقها لأسكنها إلى الأبد.
أتدحرج نحو هذا الوادي الصخري العميق نقطة بشرية، قطرة للونٍ ما.. على لوحةٍ أبدية، لمنظر أردت أن أرسمه.. فرسمني.
أليست هذه أجمل نهاية لرسّام، أن يتوحد مع لوحته في مشهد واحد؟
كنت أدري في تلك اللحظة وأنا أنظر إلى الوهاد العميقة تحتي، إلى تلك الأنفاق الصخرية التي يشطرها نهر الرمال ببطء زبديّ، أن "الهاوية الأنثى" كانت تستدرجني إلى العمق، في موت شبقيّ أخير، ربما كان فرصتي الأخيرة للتوحد الجسديّ مع قسنطينة، ومع ذاكرة جدّ بدأت أشعر بتواطؤ غامض معه.
ترى شهوة السقوط والتحطم هي التي أشعرتني عندئذٍ بالدوار، وأنا معلّق على ذلك الجسر وحدي؟
وإذا بي أشعر فجأة بالخجل من هذه المدينة.. وأكاد أعتذر لها. وحدهم الغرباء هنا يشعرون بالدوار. فمتى بالتحديد وضعتني قسنطينة في خانتهم؟
ورغم ذلك أعترف، أنني لم أكن يومها مستعداً للموت.
ليس تمسكاً منيّ بالحياة. ولكن لأنني وصلت بذلك الحزن الجارف العميق الذي اجتاحني منذ وطئت هذه المدينة، إلى عاطفة غامضة متطرفة أخرى.
لقد وصلت بمرارتي وخيبتي حد الطمأنينة والسعادة المبهمة.
فلقد تعلّمت أن أسخر من استفزاز الأشياء لي، وأقابل تلك المواجهة مع الذاكرة بشيء من التهكم المرّ.
ألم آت هنا إثر قرارٍ جنوني، ربما بحثاً عن الجنون في مدينة تكاد تحترفه! ولذا بدأت أتلذّذ سراً بهذه اللعبة الموجعة، وأحرص على أن أعيش صدماتي بمازوشيّة متعمّدة. فربما كانت خيبتي اليوم مع هذه المدينة، هي منجم جنوني وعبقريتي القادمة.
وبرغم ذلك قررت فجأة أن أهرب من ذلك الجسر الذي كان بداية جنوني يوماً.
فجأة تطيّرت منه، أن الذي أولعت به طويلاً وحولته إلى ديكور لحياتي، بعدما أحطت نفسي بأكثر من نسخة منه.
أيكون ذلك الإحساس جاءني، وأنا ألمح من حيث كنت تلك السفوح الجبلية التي كانت يوماً مرشوشة بشقائق النعمان.. وأزهار النرجس المنثور بين الممرات الخضراء، والتي كان أهل قسنطينة يأتون إليها كل سنة لاستقبال الربيع.. محمّلين بما أعدّته النساء لتلك المناسبة من "براج" وحلويات وقهوة.. والتي تبدو اليوم حزينة، وكأن أزهارها غادرتها لسبب غامض؟
أم تراه منظر مزار (سيدي محمد الغراب) الذي يعود فجأة إلى الذاكرة. وإذا بي أستعيد ما قرأته عنه مؤخراً في كتاب تاريخي عن قسنطينة. فتعبرني قشعريرة غامضة.
ماذا لو لاحقتني دون أن أدري اللعنة التي لاحقت صالح باي أكبر بايات قسنطينة على الإطلاق بسبب هذا الجسر؟ هو الذي كان يريد أن يختم إنجازاته المعمارية الهائلة، وإصلاحاته المختلفة التي وهبها لتلك المدينة، بإصلاح جسر القنطرة، اللسان الترابي الوحيد الذي كان يربط المدينة بالخارج، والجسر الوحيد الذي صمد من بين خمسة جسور رومانية.
تقول أسطورة شعبية، إن هذا الجسر كان أحد أسباب هلاك (صالح باي) ونهايته المفجعة..
فقد قتل فوقه (سيدي محمد)، أحد الأولياء الذين كانوا يتمتّعون بشعبية كبيرة. وعندما سقط رأس الرجل الولي على الأرض، تحول جسمه إلى غراب، وطار متوجهاً نحو دار صالح باي الريفية التي كانت على تلك السفوح. ولعنه واعداً إياه بنهاية لا تقل قسوة ولا ظلماً عن نهاية الولي الذي قتله.
فما كان من صالح باي إلا أن غادر بيته وأراضيه إلى الأبد، تطيّراً من ذلك الغراب، واكتفى بداره في المدينة.
هكذا أطلق الناس على ذلك المكان اسم "سيدي محمد الغراب"، ليبقى بعد قرنين مزار المسلمين واليهود في قسنطينة، يأتونه في نهايات الأسبوع وفي المواسم، لقضاء أسبوع كامل يرتدون خلاله ثياباً وردية، يؤدون بها طقوساً متوارثة جيلاً عن جيل، فيقدّمون له ذبائح الحمام، ويستحمّون في المياه الدافئة لبركته الصخرية حيث كانت تستحمّ السلاحف، ويعيشون على شرب "العروق" لا غير، والاستسلام لنوبات رقص بدائية، في حلقات جماعية يؤدونها في الهواء الطلق.. على وقع بندير "الفقيرات".
ولكن قسنطينة، لم تحقد على بايها الذي وهبها الكثير من الوجاهة والرفاهية.
سوّت فقط بطيبة أو بجنون.. بين القاتل والقتيل.
صنعت من (سيدي محمد الغراب) أشهر مزار وليّ قسنطيني على الإطلاق، في مدينة يحمل كل شارع فيها اسم وليّ.
وخلّدت من بين واحد وأربعين باياً حكمها، اسم صالح باي وحده، فكتبت فيه أجمل أشعارها، وغنّت فجيعة موته في أجمل أغنية رثاء. ومازالت تلبس حداده حتى اليوم مع ملاءات نسائها السوداء.. دون أن تدري!
هذه هي قسنطينة..
لا فرق بين لعنتها ورحمتها، لا حاجز بين حبّها وكراهيّتها، لا مقاييس معروفة لمنطقها.
تمنح الخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء.
فمن عساه يحاسبها على جنونها، ومن عساه يحسم موقفه منها، حباً أو كراهية.. إجراماً أو براءةً.. دون أن يعترف أنها تحمل في كل الحالات ضدّها؟
***
في كل يوم كنت أقضيه في تلك المدينة، كنت أتورط أكثر في ذاكرتها، فرحت أبحث في سهراتي مع حسان، وأحاديثنا الجانبية الطويلة، التي تمتد بنا أحياناً حتى ساعة متأخرة من الليل.. عن وصفة أخرى للنسيان.
أبحث في ذلك الجو العائلي الذي افتقدته طويلاً عن طمأنينة أخرى خارج فضائها.
كان لوجودي في ذلك البيت العائلي الذي أعرفه ويعرفني، تأثير على نفسيّتي في تلك الأيام. وربما كان سندي السريّ الذي لم أتوقّعه. لقد كنت أعود إليه كل ليلة، وكأنني أصعد نحو دهاليز طفولتي البعيدة، لأصبح جنيناً من جديد..
أختبئ في جوف أمٍ وهمية، مازال مكانها هنا فارغاً منذ ثلاثين سنة.
يحدث في تلك الليالي أن أذكر زياد، يوم أقام عندي لبضعة أشهر في الجزائر، عندما رفض مستأجره أن يجدّد له عقد إيجار البيت.
تعوّدت وقتها أن أترك له سريري، وأنام على فراش آخر وضعته على الأرض في غرفة أخرى.
وكان زياد يحتج ويشعر بشيء من الإحراج، معتقداً أنني أفعل ذلك مجاملة له.
وكنت أوكّد له كل مرة، أنني اكتشفت بفضله أنني أسعد أكثر بالنوم على الأرض. فقد كان ذلك الفراش الأرضي يذكّرني بطفولتي وبنومي إلى جوار أمي لعدة سنوات، على ذلك المطرح الصوفي الذي ما زلت أذكر لونه الأزرق. بل وتلك الأيام التي كانت تخصّصها (أمّا) كل خريف، لغسل الصوف وتجديد تلك المطارح الصوفية التي كانت الأثاث الأساسي لغرفة نومي.
تمنّيت لو طلبت من عتيقة أن تضع لي في المستقبل فراشاً على الأرض، تماماً كما تفعل مع أولادها الذين ينامون في الغرف الأخرى، على فراش أرضي مشترك يوحي بالدفء والرغبة بالانزلاق تحت أغطيته الصوفية الجميلة التي تثير غيرتي وحنيني لزمنٍ لم أعد أدري لبعده، إن كنت عشته حقاً.. أم تخيّلته.
ولكن أيعقل أن أطلب هذا الطلب من عتيقة؟ هي التي أعطتني أجمل غرف بيتها، غرفة نومها العصرية المعدّة لاستقبال الضيوف، أكثر منها لقضاء ليالٍ زوجية.. للحب؟
لو فعلت هذا فلربما أحرجتها، ولما وجدت تفسيراً لجنوني هذا. فقد كانت عتيقة تشارك أحياناً في سهرتنا، وتحاول أن تستنجد بي، بصفتي رجلاً متحضّراً قادماً من باريس، لأقنع أخي بالتخلي عن هذا البيت العربي القديم، وهذه الطريقة المتخلّفة في العيش. وتكاد تعتذر لي عن كل الأشياء التي كانت تبدو في نظري جميلة.. ونادرة.
ولأنني لم أكن أملك القدرة على إقناعها برأيي، ولا الجرأة على معاكسة رأيها، كنت أكتفي بالاستماع إلى نقاشها مع حسان، ذلك النقاش الذي يكاد يتحول أحياناً إلى شجار قبل أن تنسحب هي إلى النوم، ويعلّق حسان شبه معتذر:
"لا يمكن أن تقنع امرأة تشاهد مسلسل (دالاس) على التلفزيون، أن تسكن بيتاً كهذا وتحمد الله.. لا بد أن يوقفوا هذا المسلسل، ماداموا عاجزين عن منح الناس سكناً محترماً.. وحياة أفضل..".
كنت أحسد قناعة حسان. وأعجب بفلسفته في الحياة.
كان يقول: "لكي تكون سعيداً عليك أن تنظر إلى من تحتك. فإذا كان في يدك قطعة رغيف، ونظرت لمن ليس في يده شيء، ستسعد وتحمد الله. وأما إذا رفعت رأسك كثيراً ونظرت لمن في يدهم قطعة "كعك" فأنت لن تشبع، بل ستموت قهراً فقط.. وتتعس باكتشافك!".
وهكذا ففي نظر حسان أن العيش في بيت كهذا برغم كل سلبياته التي تبدو أحياناً مزعجة، بتفاصيلها الصغيرة التي تجاوزها العصر، يظل أفضل مما يعانيه آلاف الناس. بل وعشرات الآلاف الذين لم يجدوا بيتاً واسعاً كهذا يسكنونه بمفردهم مع أولادهم وزوجتهم. بل كثيراً ما يتقاسمون مع أهلهم وأقاربهم، الشقة الضيقة التي تكون بيتاً لعائلتين لعدة سنوات.
هكذا كان حسان..
"لقد كانت نظرته إلى الأشياء نظرة عمودية، فقد تعلم كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائط..".
وكان سعيداً بتلك النظرة التي قد تعود أيضاً إلى عقليته كموظف محدود الدخل.. ومحدود الأحلام!
فَبِمَ يمكن أن يحلم أستاذ للعربية يقضي يومه في شرح النصوص الأدبية، وسرد سيرة الكتّاب والشعراء القدامى على تلاميذه.. وتصحيح أخطائهم النحوية والإنشائية، ولا يجد متسعاً من الوقت _أو الجرأة_ لشرح ما كان يحدث أمامه، وتصحيح أخطاء أكبر ترتكب على مرأى منه باسم كلمات خرجت فجأة من اللغة، لتدخل قاموس الشعارات والمزايدات؟.
كان في أعماق حسان مرارة غامضة تبدو على كل تفاصيل حياته. ولكنه كان يحتفظ بها لنفسه.
من الواضح أنه كان متعباً وغارقاً في مشكلات أولاده الستّة وزوجته الشابة التي تحلم بحياة أخرى غير حياة قسنطينة المغلقة. وأما هو فلم يكن يجرؤ على الحلم، أو بالأحرى كان يحلم آنذاك بالعثور على شخص يتوسط له ليحصل على ثلاجة جديدة.. لا غير